الحمد لله.
يتضح الجواب على هذا ببيان معنى "توبة الله على العبد" ، وبيان ذلك : أن توبة الله على العبد لها معنيان :
الأول : توفيق الله تعالى للعبد أن يتوب .
الثاني : أن يقبل الله تعالى توبة العبد .
قال ابن القيم في "مدارج السالكين" (1/312) :
"وتوبة العبد إلى ربه: محفوفة بتوبة من الله عليه قبلها ، وتوبة منه بعدها ، فتوبته بين توبتين من الله ، سابقة ولاحقة ، فإنه تاب عليه أولا، إذنا وتوفيقا وإلهاما ، فتاب العبد ، فتاب الله عليه ثانيا قبولا وإثابة .
قال الله سبحانه وتعالى : (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) التوبه/ 117، 118 " انتهى .
وقال الشيخ ابن عثيمين في تفسير سورة البقرة (1/136) :
"واعلم أن لله تعالى على عبده توبتين؛ التوبة الأولى قبل توبة العبد؛ وهي التوفيق للتوبة؛ والتوبة الثانية بعد توبة العبد؛ وهي قبول التوبة؛ وكلاهما في القرآن؛ قال الله تبارك وتعالى: (وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا) [التوبة: 118] .
فقوله تعالى: (ثم تاب عليهم) أي وفقهم للتوبة، وقوله تعالى: (ليتوبوا) أي يقوموا بالتوبة إلى الله؛ وأما توبة القبول ففي قوله تعالى: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات) (الشورى: 25)" انتهى .
وقال السعدي في تفسيره (ص 354) :
" ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ أي: أذن في توبتهم ووفقهم لها لِيَتُوبُوا أي: لتقع منهم، فيتوب اللّه عليهم" انتهى .
وعلى هذا ؛ فإذا كان المصر على المعصية يقول : (ربنا يتوب علينا) ويقصد المعنى الثاني لتوبة الله على العبد ، فهو كاذب في هذا ، لأنه لم يتب حتى يدعو الله بأن يقبل توبته .
أما إذا كان يريد المعنى الأول – وهو الظاهر- فقد دعا الله تعالى أن يوفقه للتوبة ، وهذا دعاء حسن ، لا مانع منه شرعا ، بل إنه يتضمن الإقرار على نفسه بالتقصير والذنب ، فيُرجى له أن يستجيب الله تعالى دعاؤه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"وَأَمَّا الِاعْتِرَافُ بِالذَّنْبِ ، عَلَى وَجْهِ الْخُضُوعِ لِلَّهِ ، مِنْ غَيْرِ إقْلَاعٍ عَنْهُ : فَهَذَا فِي نَفْسِ الِاسْتِغْفَارِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي لَا تَوْبَةَ مَعَهُ ، وَهُوَ كَاَلَّذِي يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَغْفِرَ لَهُ الذَّنْبَ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ ...
وَهَذَا لَا يُقْطَعُ بِالْمَغْفِرَةِ لَهُ ، فَإِنَّهُ دَاعٍ دَعْوَةً مُجَرَّدَةً.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو بِدَعْوَةِ لَيْسَ فِيهَا إثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إلَّا كَانَ بَيْنَ إحْدَى ثَلَاثٍ: إمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَ لَهُ مِنْ الْجَزَاءِ مِثْلَهَا؛ وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ الشَّرِّ مِثْلَهَا. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إذًا نُكْثِرُ قَالَ: اللَّهُ أَكْثَرُ).
فَمِثْلُ هَذَا الدُّعَاءِ : قَدْ تَحْصُلُ مَعَهُ الْمَغْفِرَةُ .
وَإِذَا لَمْ تَحْصُلْ فَلَا بُدَّ أَنْ يَحْصُلَ مَعَهُ صَرْفُ شَرٍّ آخَرَ ، أَوْ حُصُولُ خَيْرٍ آخَرَ ، فَهُوَ نَافِعٌ ، كَمَا يَنْفَعُ كُلُّ دُعَاءٍ.
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ: الِاسْتِغْفَارُ مَعَ الْإِصْرَارِ: تَوْبَةُ الْكَذَّابِينَ = فَهَذَا إذَا كَانَ الْمُسْتَغْفِرُ يَقُولُهُ عَلَى وَجْهِ التَّوْبَةِ ، أَوْ يَدَّعِي أَنَّ اسْتِغْفَارَهُ تَوْبَةٌ ، وَأَنَّهُ تَائِبٌ بِهَذَا الِاسْتِغْفَارِ؛ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مَعَ الْإِصْرَارِ: لَا يَكُونُ تَائِبًا ، فَإِنَّ التَّوْبَةَ وَالْإِصْرَارَ ضِدَّانِ: الْإِصْرَارُ يُضَادُّ التَّوْبَةَ ، لَكِنْ لَا يُضَادُّ الِاسْتِغْفَارَ بِدُونِ التَّوْبَةِ" انتهى من "مجموع الفتاوى" (10/319) .
والله أعلم .
تعليق