الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 - 22 نوفمبر 2024
العربية

كيف فهم النجاشي كلام جعفر رضي الله عنه؟

324815

تاريخ النشر : 11-02-2020

المشاهدات : 28159

السؤال

عندما هاجر المسلمون إلى الحبشة، وقرأ جعفر رضي الله عنه من سورة مريم على النجاشي، هل كان بينهما ترجمان، خاصة أن النجاشي بكى حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلي عليهم، كما روي عن أم سلمة رضي الله عنها؟ وما الذي يصحّ في الهجرة إلى الحبشة؟

الجواب

الحمد لله.

أولا:

ورد في روايات هجرة الحبشة أن جعفرا رضي الله عنه خاطب النجاشي وقرأ عليه آيات من القرآن، ومن المعلوم أن الحبشة ليس لسانها عربيا، فكيف فهم النجاشي ما خوطب به؟

لم يرد في روايات الهجرة بيان هذه المسألة؛ والأمر محتمل:

فالاحتمال الأول: أنه كان بينهما ترجمان، لكن أغفلت الروايات ذكره لعدم أهمية هذا في حوادث الهجرة، ووجود ترجمان ليس بأمر مستغرب، فبلاد الحبشة كان لها اتصال ببلاد العرب خاصة مع اليمن، فوجود شخص يفهم العربية ولغة الحبشة ليس أمرا صعبا ومستبعدا.

والاحتمال الثاني: وهو احتمال توهمه عبارة ذكرها ابن كثير رحمه الله تعالى؛ حيث قال:

" وقال يونس عن ابن إسحاق: حدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير، قال: إنما كان يكلم النجاشي عثمان بن عفان رضي الله عنه.

والمشهور أن جعفرا هو المترجم رضي الله عنهم " انتهى من "البداية والنهاية" (4 / 190).

والوارد في "سيرة ابن إسحاق" (ص 217 - 218):

" يونس عن ابن إسحق قال: حدثني يزيد بن رومان، عن عروة ابن الزبير، قال: إنما كان يكلم النجاشي عثمان بن عفان.

... عن ابن إسحق قال: وليس كذلك، إنما كان يكلمه جعفر بن أبي طالب " انتهى.

فيظهر أن ابن كثير رحمه الله تعالى لم يسق عبارة ابن إسحاق بألفاظها.

لكن كون جعفر هو المتكلم بلسان الحبشة ليوصل لهم معاني خطابه، هو أمر محتمل جدا، فقد عاش في الحبشة سنوات عدة.

فهجرته كانت في الفترة المكية أثناء شدة إيذاء المشركين للمسلمين، وقد عاش جعفر في الحبشة ولم يقدم إلى المدينة إلا سنة فتح خيبر.

عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " بَلَغَنَا مَخْرَجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ بِاليَمَنِ فَرَكِبْنَا سَفِينَةً، فَأَلْقَتْنَا سَفِينَتُنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ بِالحَبَشَةِ، فَوَافَقْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَأَقَمْنَا مَعَهُ حَتَّى قَدِمْنَا، فَوَافَقْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  لَكُمْ أَنْتُمْ يَا أَهْلَ السَّفِينَةِ هِجْرَتَانِ " رواه البخاري (3876)، ومسلم (2502).

ورجع جمع من الصحابة قبل هذا بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، كرجوع عبد الله بن مسعود سنة غزوة بدر.

وعلى أي حال فقد مكث جعفر والمهاجرون بالحبشة سنوات عدة.

ولا يعلم على وجه القطع : تاريخ إرسال قريش لعمرو بن العاص وصاحبه إلى ملك الحبشة ليرد إليهم المهاجرين؛ فإن كانت بعد هجرة الحبشة بسنوات -ولو قليلة كالسنتين ونحوها- فيحتمل جدا أن جعفرا رضي الله عنه كان قد أجاد لغة أهل الحبشة، مما مكّنه من مخاطبة النجاشي بها.

الاحتمال الثالث: وأشار إليه بعض أهل العلم اعتمادا على بعض الروايات، وهو أن النجاشي كان عالما بلسان العرب وأنه عاش زمنا ببلادها؛ فيذكرون في حادثة سلب عمه للملك منه وبيعه عبدا، أنه اشتراه رجل من العرب وسافر به، ولم يعد إلى الحبشة إلا بعد موت عمه، واضطراب ملكها، فاضطروا إلى البحث عنه، وإعادة الملك إليه، لأنه كان رجلا عاقلا حكيما.

قال السهيلي رحمه الله تعالى:

" وذكر حديث عائشة عن النجاشي حين رد الله عليه ملكه، وأن قومه كانوا باعوه، فلما مرج أمر الحبشة، أخذوه من سيده، واستردوه.

وظاهر الحديث يدل على أنهم أخذوه منه قبل أن يأتي به بلاده، لقوله: ( خرجوا في طلبه، فأدركوه ).

وقد بيّن في حديث آخر أن سيده كان من العرب وأنه استعبده طويلا...

فمن هنا - والله أعلم - تعلم من لسان العرب ما فهم به سورة مريم حين تليت عليه، حتى بكى وأخضل لحيته " انتهى من "الروض الأنف" (3 / 260).

والحديث الذي أشار إليه السهيلي؛ هو ما رواه عبد الله بن المبارك في "الزهد - زوائد أبي نعيم" (192)، قال: أخبرنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ صَنْعَاءَ قَالَ: " أَرْسَلَ النَّجَاشِيُّ ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى جَعْفَرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَصْحَابِهِ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي بَيْتٍ، عَلَيْهِ خُلْقَانٌ جَالِسٌ عَلَى التُّرَابِ، قَالَ جَعْفَرٌ: وَأَشْفَقْنَا مِنْهُ حِينَ رَأَيْنَاهُ عَلَى تِلْكِ الْحَالِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وُجُوهِنَا قَالَ: إِنِّي أُبَشِّرُكُمْ بِمَا يَسُرُّكُمْ، إِنَّهُ جَاءَنِي مِنْ نَحْوِ أَرْضِكُمْ عَيْنٌ لِي، فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ قَدْ نَصَرَ نَبِيَّهُ، وَأَهْلَكَ عدُوَّهُ، وَأَسَرَ فُلَانًا وَفُلَانًا، وَقَتَلَ فُلَانًا وَفُلَانًا، الْتَقَوْا بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ بَدْرٌ كَثِيرُ الْأَرَاكِ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، كُنْتُ أَرْعَى لِسَيِّدِي، رَجُلٍ مِنْ بَنِي ضَبَّةَ إِبِلَهُ ".

لكن إسناد هذا الخبر ضعفه ظاهر، ومع هذا الضعف يشكل عليه أيضا بكاء الأساقفة الذين كانوا مع النجاشي لما سمعوا القرآن؛ فهل كانوا كلهم على دراية بلغة العرب؟! إلا أن يقال أنهم بكوا لمعجزة القرآن في تحريك القلوب ولو كان السامع أعجميا؛ أو أنهم بكوا لبكاء النجاشي.

فالحاصل؛ أن هذه المسألة محتملة ولا يعرف نص تاريخي صحيح صريح يفصل فيها.

ثانيا:

وردت روايات عدة في أخبار هجرة الحبشة، وورد بعضها بسند صحيح أو حسن، وهذه الأخبار من الطول بحيث لا يناسب سردها بكمالها في مثل هذا الجواب، ومن هذه الروايات:

عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيِّ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ابْنَةِ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: " لَمَّا نَزَلْنَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ، جَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ، النَّجَاشِيَّ، أَمِنَّا عَلَى دِينِنَا، وَعَبَدْنَا اللهَ لَا نُؤْذَى، وَلا نَسْمَعُ شَيْئًا نَكْرَهُهُ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا، ائْتَمَرُوا أَنْ يَبْعَثُوا إِلَى النَّجَاشِيِّ فِينَا رَجُلَيْنِ جَلْدَيْنِ، وَأَنْ يُهْدُوا لِلنَّجَاشِيِّ هَدَايَا مِمَّا يُسْتَطْرَفُ مِنْ مَتَاعِ مَكَّةَ، وَكَانَ مِنْ أَعْجَبِ مَا يَأْتِيهِ مِنْهَا إِلَيْهِ الْأَدَمُ، فَجَمَعُوا لَهُ أَدَمًا كَثِيرًا، وَلَمْ يَتْرُكُوا مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقًا إِلا أَهْدَوْا لَهُ هَدِيَّةً، ثُمَّ بَعَثُوا بِذَلِكَ مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ، وعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ... " رواه الإمام أحمد في "المسند" (3 / 263 - 268).

وقال محققو المسند:

" إسناده حسن، رجاله ثقات رجال الشيخين غير محمد بن إسحاق، فقد روى له مسلم متابعة، وهو صدوق حسن الحديث إلا أنه مدلس، لكنه هنا صرح بالتحديث فانتفت شبهة تدليسه " انتهى.

ورواه ابن إسحاق في "السيرة" (ص 213) ومن طريقه رواه البيهقي في "دلائل النبوة" (2 / 301 - 304)؛ قال: حدثني الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: " لَمَّا ضَاقَتْ عَلَيْنَا مَكَّةُ وَأُوذِيَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفُتِنُوا وَرَأَوْا مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْفِتْنَةِ فِي دِينِهِمْ، وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَسْتَطِيعُ دَفْعَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ وَمِنْ عَمِّهِ، لَا يَصِلُ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا يَكْرَهُ مِمَّا يَنَالُ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مَلِكًا لَا يُظْلَمُ أَحَدٌ عِنْدَهُ، فَالْحَقُوا بِبِلَادِهِ حَتَّى يَجْعَلَ اللهُ لَكُمْ فَرَجًا وَمَخْرَجًا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ. فَخَرَجْنَا إِلَيْهَا أَرْسَالًا حَتَّى اجْتَمَعْنَا بِهَا فَنَزَلْنَا بِخَيْرِ دَارٍ وَإِلَى خَيْرِ جَارٍ، آمَنَّا عَلَى دِينِنَا، وَلَمْ نَخْشَ مِنْهُ ظُلْمًا.

فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّا قَدْ أَصَبْنَا دَارًا وَأَمْنًا، اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَبْعَثُوا إِلَيْهِ فِينَا فَيُخْرِجُنَا مِنْ بِلَادِهِ، وَلِيَرُدَّنَا عَلَيْهِمْ، فَبَعَثُوا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ ... " وجوّد إسناده الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (7 / 578).

وروى ابن ابي شيبة في "المصنف" (20 / 418 - 420)؛ حَدَّثنا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ:" أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليهِ وسَلمَ أَنْ نَنْطَلِقَ مَعَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى أَرْضِ النَّجَاشِيِّ، قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ قَوْمَنَا، فَبَعَثُوا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَعُمَارَةَ بْنَ الْوَلِيد، وَجَمَعُوا لِلنَّجَاشِيِّ هَدِيَّةً، فَقَدِمْنَا وَقَدِمَا عَلَى النَّجَاشِي، فَأَتَوْهُ بِهَدِيَّتِهِ فَقَبِلَهَا، وَسَجَدُوا لَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: إِنَّ قَوْمًا مِنَّا رَغِبُوا عَنْ دِينِنَا، وَهُمْ فِي أَرْضِكَ، فَقَالَ لَهُمُ النَّجَاشِيُّ: فِي أَرْضِي؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَبَعَثَ إِلَيْنَا... " وصححه محققو المصنف.

وله شاهد من حديث عبد الله بن مسعود أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (7 / 408).

وللفائدة يحسن مطالعة كتاب "أحاديث الهجرة" للدكتور سليمان السعود.

وكتاب "السيرة النبوية الصحيحة" للدكتور أكرم ضياء العمري.

وكتاب "الصحيح من أحاديث السّيرة النبوية" للشيخ محمد بن حمد الصوياني.

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب