الحمد لله.
أولا: الغش في البيع وغيره من كبائر الذنوب وليس للغش عقوبة محددة
الغش في البيع وغيره محرم، بل كبيرة من الكبائر؛ لهذا الحديث الذي ذكرت ، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي) رواه مسلم (102).
وروى أحمد (5113) عن ابن عمر قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بطعام وقد حسّنه صاحبه، فأدخل يده فيه، فإذا طعام رديء فقال: (بع هذا على حدة، وهذا على حدة، فمن غشنا فليس منا) وصححه محققو المسند.
وليس للغش عقوبة محددة، وإنما يشرع فيها التعزيز، والتعزير أمره إلى الإمام، بحسب المصلحة، فلعل النبي صلى الله عليه وسلم تركه لجهل الرجل أن هذا غش، أو لغير ذلك، واكتفى ببيان حكمه، وقد كان القوم أهل إيمان ، وتكفيهم مثل هذه الكلمة العظيمة ، فيحصل المقصود والردع والزجر دون تعزير.
قال في "منار السبيل" (2/ 381): " (يجب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة) ، كمباشرة الأجنبية فيما دون الفرج، وإتيان المرأة المرأة، وسرقة ما لا قطع فيه، والجناية بما لا يوجب القصاص، ونحوها، لما روي عن علي، رضي الله عنه أنه سئل عن قول الرجل للرجل: يا فاسق، يا خبيث قال: هن فواحش فيهن تعزير، وليس فيهن حد.
(وهو من حقوق الله تعالى، لا يُحتاج في إقامته إلى مطالبة) لأنه شرع للتأديب، فللإمام إقامته إذا رآه، وله تركه إن جاء تائبا معترفا يظهر منه الندم والإقلاع، لما روى ابن مسعود: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني لقيت امرأة فأصبت منها ما دون أن أطاها، فقال: (أصليت معنا؟ ) قال نعم. فتلا عليه: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ متفق عليه" انتهى.
والحاصل: أن للسلطان أن يعاقب التاجر الغاش ، إن رأى المصلحة في ذلك.
ثانيا: التعزيز يكون بما يحقق المصلحة
التعزيز يكون بما يحقق المصلحة ، فقد يرى صاحب السلطان أن التعزير في مثل ذلك يحصل بأخذ المغشوش ، والتصدق به، أو بإتلافه، أو بضرب الغاش أو بغير ذلك .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " ومما يشبه ذلك ما فعله عمر بن الخطاب؛ حيث رأى رجلا قد شاب [أي خلط] اللبن بالماء للبيع فأراقه عليه، وهذا ثابت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وبذلك أفتى طائفة من الفقهاء القائلين بهذا الأصل؛ وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يُشاب اللبن بالماء للبيع وذلك بخلاف شوبه للشرب؛ لأنه إذا خُلط ، لم يعرف المشتري مقدار اللبن من الماء؛ فأتلفه عمر.
ونظيره ما أفتى به طائفة من الفقهاء القائلين بهذا الأصل في جواز إتلاف المغشوشات في الصناعات: مثل الثياب التي نسجت نسجا رديئا ؛ أنه يجوز تمزيقها وتحريقها؛ ولذلك لما رأى عمر بن الخطاب على ابن الزبير ثوبا من حرير، مزقه عليه . فقال الزبير: أفزعت الصبي . فقال: لا تكسوهم الحرير.
كذلك تحريق عبد الله بن عمر لثوبه المعصفر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا كما يُتلف من البدن المحل الذي قامت به المعصية؛ فتقطع يد السارق ، وتقطع رجل المحارب ويده.
وكذلك الذي قام به المنكر ، في إتلافه نهيٌ عن العود إلى ذلك المنكر.
وليس إتلاف ذلك واجبا على الإطلاق؛ بل إذا لم يكن في المحل مفسدة جاز إبقاؤه أيضا؛ إما له، وإما أن يتصدق به كما أفتى طائفة من العلماء على هذا الأصل: أن الطعام المغشوش؛ من الخبز والبطيخ والشواء، كالخبز والطعام الذي لم ينضج، وكالطعام المغشوش وهو: الذي خلط بالرديء وأظهر المشتري أنه جيد، ونحو ذلك: يتصدق به على الفقراء؛ فإن ذلك من إتلافه. وإذا كان عمر بن الخطاب قد أتلف اللبن الذي شيب للبيع: فلَأن يجوز التصدق بذلك بطريق الأولى؛ فإنه يحصل به عقوبة الغاش، وزجره عن العود، ويكون انتفاع الفقراء بذلك أنفع من إتلافه، وعمر أتلفه لأنه كان يغني الناس بالعطاء؛ فكان الفقراء عنده في المدينة إما قليلا وإما معدومين. ولهذا جوز طائفة من العلماء التصدق به، وكرهوا إتلافه.
ففي المدونة عن مالك بن أنس أن عمر بن الخطاب كان يطرح اللبن المغشوش في الأرض أدبا لصاحبه وكره ذلك مالك في رواية ابن القاسم؛ ورأى أن يتصدق به. وهل يتصدق باليسير؟ فيه قولان للعلماء.
وقد روى أشهب عن مالك منع العقوبات المالية وقال: لا يُحل ذنبٌ من الذنوب مالَ إنسان؛ وإن قتل نفسا.
لكن الأول أشهر عنه، وقد استحسن أن يتصدق باللبن المغشوش؛ وفي ذلك عقوبة الغاش بإتلافه عليه، ونفع المساكين بإعطائهم إياه ولا يهراق".
إلى أن قال: " وإذا لم ير ولي الأمر عقوبة الغاش بالصدقة، أو الإتلاف؛ فلا بد أن يمنع وصول الضرر إلى الناس بذلك الغش: إما بإزالة الغش؛ وإما ببيع المغشوش ممن يعلم أنه مغشوش ولا يغشه على غيره.
قال عبد الملك بن حبيب: قلت لمطرف وابن الماجشون، لما نَهينا عن التصدق بالمغشوش لرواية أشهب: فما وجه الصواب عندكما فيمن غش أو نقص من الوزن؟
قالا: يعاقب بالضرب والحبس والإخراج من السوق؛ وما كثر من الخبز واللبن أو غش من المسك والزعفران، فلا يفرق ولا ينهب.
قال عبد الملك بن حبيب: ولا يرده الإمام إليه، وليؤمر ببيعه عليه من يأمن أن يغش به، وبكسر الخبز إذا كثر، ويسلمه لصاحبه، ويباع عليه العسل والسمن واللبن الذي يغشه، ممن يأكله ويبين له غشه، هكذا العمل فيما غش من التجارات.
قال: وهو إيضاح من استوضحتُه ذلك من أصحاب مالك وغيرهم" انتهى من "مجموع الفتاوى" (28/ 114- 117).
وقال الدسوقي في "حاشيته على الدردير" (3/ 46): " (قوله: وتصدق بما غش) أي جوازا لا وجوبا ؛ لما يذكره المصنف آخرا من قوله: (ولو كثر)، فإن هذا قول مالك، والتصدق عنده جائز لا واجب.
وما ذكره المصنف من التصدق هو المشهور، وقيل: يراق اللبن ونحوه من المائعات، وتحرق الملاحف والثياب الرديئة النسج، قاله ابن العطار، وأفتى به ابن عتاب.
وقيل: إنها تقطع خرقا خرقا وتعطى للمساكين. وقيل: لا يحل الأدب بمال امرئ مسلم، فلا يُتصدق به عليه، ولا يراق اللبن ونحوه، ولا تحرق الثياب، ولا تقطع الثياب ويتصدق بها، وإنما يؤدب الغاش بالضرب، حكى هذه الأقوال ابن سهل.
قال ابن ناجي: واعلم أن هذا الخلاف إنما هو في نفس المغشوش، هل يجوز الأدب فيه أم لا. وأما لو زنى رجل مثلا؛ فلا قائل فيما علمت أنه يؤدب بالمال، وإنما يؤدب بالحد. وما يفعله الولاة من أخذ المال، فلا شك في عدم جوازه" انتهى.
والله أعلم.
تعليق