الحمد لله.
أولًا : ضابط التعامل مع كلام الناس
ينبغي أن يُحمل كلام الناس على محمل حسن ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا ، وما خالف الكتاب والسنة منه، وجب رده ، ونهي الناس عنه . وما احتمل وجها من الحق، ووجها من الباطل، لم يسغ إطلاقه إلا مع البيان، والاحتراز من إرادة المعنى الباطل، أو الإيهام به.
ثانيًا : المراد من عبارة (أينما زرعك الله أزهر)
هذه العبارة تقال عادة في سياق الدعوة إلى التفاؤل ، وترك الكسل ، وأن يترك الإنسان أثرًا بعد موته ، وعليه ؛ لا نرى بأسًا في التحدث بها .
وأما ما يمكن أن يلمحه بعض الناس من نسبة الزرع إلى الله ، فلا بأس به ، لأنه يُنسب إلى الله تعالى من باب الخبر، ويراد به : أن الله هو خالق الإنسان ، ورازقه ، وهذا معنى صحيح لا إشكال فيه ، والإخبار عن الله جل جلاله بأنه (الزارع): ثابت في القرآن الكريم . قال الله تعالى : وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ * أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ .
قال الشيخ السعدي رحمه الله: "أأنتم أخرجتموه نباتا من الأرض؟ أم أنتم الذين نميتموه؟ أم أنتم الذين أخرجتم سنبله وثمره حتى صار حبا حصيدا وثمرا نضيجا؟ أم الله الذي انفرد بذلك وحده، وأنعم به عليكم؟ وأنتم غاية ما تفعلون أن تحرثوا الأرض وتشقوها وتلقوا فيها البذر، ثم بعد ذلك لا علم عندكم بما يكون بعد ذلك، ولا قدرة لكم على أكثر من ذلك ومع ذلك، فنبههم على أن ذلك الحرث معرض للأخطار لولا حفظ الله وإبقاؤه لكم بلغة ومتاعا إلى حين" ، انتهى من "السعدي" (835).
والمعنى المراد من هذه العبارة : صحيح، ظاهر، لا إشكال فيه؛ أي: لا تجعل عطاءك، ولا الخير المؤمل منك، محصورا بمكان تكون فيه، أو موضع توضع فيه، حتى إذا لم تكن في هذا المكان، ولم ينزلك الله بذلك المنزل، قطعت الخير، وبخلت بما عندك؛ بل : كن نافعا حيثما كنت، وليكن مثلك كمثل المؤمن: يرجى خيره ونفعه أينما كان.
قال الله تعالى في خبره عن عبده ونبيه عيسى بن مريم عليه السلام : وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا مريم/31 .
وقد النبي شبه صلى الله عليه وسلم حال المؤمن ، في دوام خيره ونفعه، وتتابع عطائه على كل أحواله، بالشجرة التي يطلب منها النفع على كل حال:
فعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ المُسْلِمِ، فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ ؟ فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ البَوَادِي قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، فَاسْتَحْيَيْتُ، ثُمَّ قَالُوا: حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: هِيَ النَّخْلَةُ ".
رواه البخاري (61)، ومسلم (2811).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وبركة النخلة موجودة في جميع أجزائها، مستمرة في جميع أحوالها؛ فمن حين تطلع، إلى أن تيبس: تؤكل أنواعا. ثم بعد ذلك ينتفع بجميع أجزائها، حتى النوى في علف الدواب، والليف في الحبال ، وغير ذلك مما لا يخفى .
وكذلك بركة المسلم عامة في جميع الأحوال ، ونفعه مستمر له ولغيره حتى بعد موته " انتهى، من "فتح الباري" (1/146).
ثالثًا : بيان معنى لفظ النبات الوارد في القرآن
ولفظ "النبات" أتى في القرآن الكريم مرادًا به ما ينبت من الأرض زرعًا كان أو شجرًا ، قال تعالى : وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ الأنعام/ 99 .
قال "الراغب" في "المفردات" (788) : " النَّبْتُ والنَّبَاتُ : ما يخرج من الأرض من النَّامِيات ، سواء كان له ساق كالشجر ، أو لم يكن له ساق كالنَّجْم ، لكن اختَصَّ في التَّعارُف بما لا ساقَ له ، بل قد اختصَّ عند العامَّة بما يأكله الحيوان ، وعلى هذا قوله تعالى: ( لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً ) [النبأ/ 15] .
ومتى اعتبرت الحقائق: فإنّه يستعمل في كلّ نام ، نباتا كان ، أو حيوانا ، أو إنسانا ، والإِنْبَاتُ يستعمل في كلّ ذلك "، وذكر الأدلة عليه ، انتهى .
وانظر : "الحرف والصناعات في القرآن" (115)، وما بعدها .
والحاصل:
أنه لا يظهر لنا وجه في الإنكار على هذه المقولة ، بل هي ظاهرة المعنى ، لا إشكال فيها .
والله أعلم.
تعليق