الحمد لله.
روى أحمد (9720) من حديث أبي هريرة قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: فِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنْ الْأَسَدِ وصححه شعيب الأرنؤوط في تحقيق المسند، وقد رواه البخاري (5707) في صحيحه معلقا.
وروى مسلم (2231) عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ رَجُلٌ مَجْذُومٌ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجِعْ.
وروى أبو داود (3925) والترمذي (1817) عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِيَدِ مَجْذُومٍ ، فَوَضَعَهَا مَعَهُ فِي الْقَصْعَةِ، وَقَالَ: كُلْ،. ثِقَةً بِاللَّهِ وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ.
والحديث ضعفه الألباني في ضعيف أبي داود.
وعلى فرض صحة، وصحة الآثار في القرب من المجذوم، فإنه لا تعارض بين الأحاديث؛ فمجالسة بعض المرضى والقرب منهم: " سبب" للإصابة بالمرض- وليس أن المرض ينتقل ولابد- ، والسبب قد يعمل وقد لا يعمل، كما يشاء الله ويقدّر، وقد يُدفع السبب بسبب أقوى منه، وهو التوكل، ومن علم ذلك لم تشكل عليه هذه الأحاديث.
فالتوكل: صدق اعتماد القلب على الله في تحقيق مطلوب أو دفعه، وهو سبب قوي عظيم، فمن توكل على الله حقا حصل له مطلوبه ولا بد.
فسرّ المسألة هنا: هو وجود سبب للمكروه، ووجود سبب أعظم منه لدفعه، وهو التوكل.
وهذا معنى قول أهل العلم إن جلوس النبي صلى الله عليه وسلم مع المجذوم لقوة توكله صلى الله عليه وسلم، وقد فعل ذلك لبيان الجواز.
وأما ضعيف التوكل، فالأفضل له تجنب أسباب المكروه رأسا، وفي هذه حماية لاعتقاده، فربما أصيب، فظن أن المرض يُعدي ولابد، وأنه ليس سببا تجري عليه قاعدة الأسباب: إن شاء الله أمضاه، وإن شاء أبطله.
قال النووي رحمه الله في شرح مسلم (14/ 228) : "قال القاضي: قد اختلفت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة المجذوم، فثبت عنه الحديثان المذكوران، وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل مع المجذوم وقال له: (كل) ؛ ثقة بالله وتوكلا عليه.
وعن عائشة قالت: كان لنا مولى مجذوم، فكان يأكل في صحافي ويشرب في أقداحي وينام على فراشي.
قال: وقد ذهب عمر رضي الله عنه وغيره من السلف إلى الأكل معه، ورأوا أن الأمر باجتنابه منسوخ.
والصحيح الذي قاله الأكثرون، ويتعين المصير إليه: أنه لا نسخ ؛ بل يجب الجمع بين الحديثين، وحمل الأمر باجتنابه والفرار منه على الاستحباب والاحتياط، لا للوجوب، وأما الأكل معه ففعله لبيان الجواز والله أعلم" انتهى.
وقال في عون المعبود (10/ 300): "قال الأردبيلي: قال البيهقي: أخذه بيد المجذوم ووضعها في القصعة وأكله معه: في حق من يكون حاله الصبر على المكروه، وترك الاختيار في موارد القضاء.
وقوله: (وفر من المجذوم كما تفر من الأسد) ، وأمره في مجذوم بني ثقيف بالرجوع: في حق من يخاف على نفسه العجز عن احتمال المكروه والصبر عليه، فيتحرز بما هو جائز في الشرع من أنواع الاحترازات" انتهى.
وبهذا تعلم أن الأمر ليس من باب ترك الأسباب، بل من باب مدافعة الأسباب بعضها ببعض، فالتوكل وهو اعتماد القلب على الله في عدم الإصابة بالمرض، سبب يُدفع به السبب الآخر وهو حصول المرض بمجالسة المريض، وإذا كان الله هو مسبب الأسباب، فمن اعتمد عليه في تعطيل السبب ودفعه، نجاه الله ووقاه، وهذا كما جاء عن خالد بن الوليد رضي الله عنه أنه شرب السم فلم يضره.
ولا ينصح بهذا ضعيف التوكل، بل لا ينصح به من لا يحتاج إليه، لكن لو كان الإنسان طبيبا، أو قريبا، لا بد له من القرب من المجذوم، فيقال له: لا حرج في قربك منه، ولو توكلت على الله حقا، فإنك تُكفى، بإذن الله .
وينظر: جواب السؤال رقم (300907).
والله أعلم.
تعليق