الحمد لله.
يجب على من أراد فهم نص من نصوص الشرع على وجهه الصحيح، أن ينظر إليه على أنه نص ضمن منظومة متكاملة، يوافق بعضها بعضا، وتكوّن تنظيما شرعيا محكما، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ لأنه من رب العالمين.
قال الله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ الزمر/23.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:
" متشابها في الحُسْن والائتلاف، وعدم الاختلاف بوجه من الوجوه. حتى إنه كلما تدبره المتدبر، وتفكر فيه المتفكر، رأى من اتفاقه، حتى في معانيه الغامضة، ما يُبهر الناظرين، ويجزم بأنه لا يصدر إلا من حكيم عليم، هذا المراد بالتشابه في هذا الموضع " انتهى من "تفسير السعدي" (ص 723).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" فمن تدبر القرآن: تبين له أنه كما قال تعالى: ( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ ) يشبه بعضه بعضا. ويصدق بعضه بعضا. ليس بمختلِفٍ ولا بمتناقض: ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) " انتهى من "مجموع الفتاوى" (14 / 407).
وفي ضوء هذا الأصل المحكم المقرر، يمكن أن نقرأ ونفهم هذه النصوص الصحيحة والصريحة حول المهر، فقد سمّاه القرآن أجرا في عدة آيات، كقوله تعالى:
فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا النساء/24.
وكذا صحَ حديث عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ - ثَلاَثَ مَرَّاتٍ-، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَالْمَهْرُ لَهَا بِمَا أَصَابَ مِنْهَا، فَإِنْ تَشَاجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لاَ وَلِيَّ لَهُ أخرجه أبو داود (2083)، والترمذي (1102)، وقال: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ"، وصححه الألباني في "إرواء الغليل" (6/ 243).
فإذا أخذنا هذا النصوص، مقرونة بالنصوص الشرعية الأخرى حول علاقة كلٍّ من الرجل بالمرأة ، والعكس ، نجد أن تفسير المهر بأنه دُفع لمجرد الاستمتاع تفسير متهافت ومجرد وساوس.
ويتضح ذلك بأمور:
الأمر الأول:
حاجة الرجل إلى المرأة ، والعكس ، هي أمر غريزي لا يمكن إنكاره ، ولا مراغمته ، فما المحظور أن يدفع الرجل للمرأة مالا على أن يستمتع كل منهما بالآخر على وجه قد أباحه الله تعالى وأحله ، بل رغَّب فيه وأمر به ، لما يترتب على ذلك من المصالح العظيمة .
على أننا نقول : الاستمتاع هو أحد مقاصد النكاح ، وليس هو المقصد الوحيد ، بل هناك مقاصد أخرى ، قد تكون أهم منه في كثير من الحالات ، فإنجاب الذرية ، والراحة النفسية والسكن والأنس الذي يجده المتزوج ، والحرص على المصاهرة ، وإقامة علاقة متينة مع عائلة أخرى ، والقيام على المرأة والانفاق عليها وكفايتها .. وغير ذلك .. كل ذلك من مقاصد النكاح ، وقد دلت عليها نصوص كثيرة ، فلماذا تحصر تلك المقاصد في الاستمتاع فقط ، وينظر إلى النصوص التي جاءت في ذلك فقط ، ولا ينظر إلى مجموع النصوص؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"وحقيقة النكاح ومقصوده حصول السكن والازدواج بين الزوجين لمنفعة المتعة وتوابعها، ونحو ذلك " انتهى من "الفتاوى الكبرى" (6/261).
وفيها أيضا: (6/297) :
"فإن النكاح عقد يوجب المودة بين الزوجين والرحمة ، كما ذكره الله سبحانه في كتابه ، ومقصوده السكن والازدواج" انتهى .
والازدواج هو المشابهة ، والعلاقة بين الشيئين .
انظر: تاج العروس (6/24).
قال ابن القيم رحمه الله :
"والزوج سمي زوجا من الازدواج ، وهو الاشتباه ، فالزوجان : الاثنان المتشابهان" انتهى من "إغاثة اللهفان" (1/137) .
فجميع العلاقات المحمودة والمباحة التي تكون بين الزوجين هي داخلة في مقاصد النكاح ، كالاستمتاع والمصاهرة والتعاون على أمور الدنيا والدين ...
فما المانع أن يقصد الرجل الاستمتاع مع مصالح أخرى ، ما دام ذلك فيما أحله الله تعالى .
الأمر الثاني:
من الأصول العظيمة التي عُرِف بها الإسلام ولا يكاد يجهلها عنه أحد، أنه جاء لحفظ الأعراض، فجاء بتحريم وتجريم كل متاجرة جنسية، فحرم الزنا وبيوت الدعارة، وجعل مهر البغي خبيثا.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" مهر البغي، وهو ما تأخذه الزانية في مقابلة الزنى بها، فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ذلك خبيث على أي وجه كان، حرة كانت، أو أمة " انتهى من "زاد المعاد" (5/ 686).
وحرّم زواج المتعة، الذي هو عقد زواج مؤقت لقضاء شهوة وليس لبناء أسرة.
قال ابن القطان رحمه الله تعالى:
" ولم يختلف العلماء من السلف والخلف أن المتعة نكاح إلى أجل لا ميراث فيه، والفرقة تقع عند انقطاع الأجل من غير طلاق.
وأجمع فقهاء الأمصار على القول بتحريمها، وليس هذا حكم الزوجة عند أحد من المسلمين.
وقد حرم الله الفروج إلا بنكاح صحيح، وليس المتعة واحدة من هذين. واتفق أئمة الأمصار أهل الرأي والآثار بمصر والمغرب والشام على تحريم نكاح المتعة؛ لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها " انتهى من "الاقناع" (2 / 16 – 17).
وهو الدين الذي جاء بإنقاذ الإماء من متاجرة أسيادهن بهن.
قال الله تعالى:وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ النور/33.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" كان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أَمَةٌ، أرسلها تزني، وجعل عليها ضريبة يأخذها منها كل وقت. فلما جاء الإسلام، نهى الله المسلمين عن ذلك " انتهى من "تفسير ابن كثير" (6/54).
فكيف ينصرف النظر عن كل هذه الأحكام العظيمة الصريحة، في حفظ كرامة المرأة؟! ثم يُنظر بريبة إلى المهر الذي هو في زواج مشروع طاهر، القصد منه ادامته لبناء أسرة في إطار مودّة ورحمة وعشرة بالمعروف، وقضاء الشهوة فيه لتحقيق هدف سامي وهو بقاء النسل واستمراره؟!
فهل يساوى بين مهر شُرِع ليثبّت الأسرة ويديمها، بأجر الزانية الذي جاء الإسلام بتحريمه؟!
الأمر الثالث:
من الثابت في الشرع أن الذي أباح للزوج معاشرة زوجته، ليس المهر، وإنما العقد الشرعي.
كما في حديث خطبة حجة الوداع، فعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ؛ أنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَطَبَ النَّاسَ وَقَالَ:
... فَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ ... رواه مسلم (1218).
فلا يجوز جماع من غير عقد، ولو سلمها مهرا.
ولو تم العقد بغير مهر فهو نكاح صحيح، لكن لها مهر المثل، وسبق بيان هذا في جواب السؤال رقم: (111127).
الأمر الرابع:
المهر وإن سمِّي أجرا وجعل مقابل معاشرة الزوج لزوجته، إلا أنّ فيه معنى التعبد لله تعالى، فليس كسائر معاملات الإجارة، لذا لا يجوز في عقد الزواج أن يُشترط فيه عدم المهر، وليس من حق الزوجة أن تسقط المهر عن الزوج عند التعاقد.
قال ابن جزي رحمه الله تعالى:
" الصداق، وهو شرط بإجماع، ولا يجوز التراضي على إسقاطه، ولا اشتراط سقوطه" انتهى من "القوانين الفقهية" (ص 135).
وإنما يجوز للزوجة أن تتنازل عنه لزوجها بعد أن تمتلكه.
قال الله تعالى: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا النساء /4.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" وقوله: ( وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: النحلة: المهر.
وقال محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: نحلة: فريضة. وقال مقاتل وقتادة وابن جريج: نحلة: أي فريضة. زاد ابن جريج: مسماه. وقال ابن زيد: النحلة في كلام العرب: الواجب، يقول: لا تنكحها إلا بشيء واجب لها، وليس ينبغي لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكح امرأة إلا بصداق واجب، ولا ينبغي أن يكون تسمية الصداق كذبا بغير حق.
ومضمون كلامهم: أن الرجل يجب عليه دفع الصداق إلى المرأة حتما، وأن يكون طيب النفس بذلك، كما يمنح المنيحة ويعطي النحلة طيبا بها، كذلك يجب أن يعطي المرأة صداقها طيبا بذلك، فإن طابت هي له به بعد تسميته أو عن شيء منه فليأكله حلالا طيبا؛ ولهذا قال تعالى: ( فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ) " انتهى من "تفسير ابن كثير" (2/ 213).
وطالع لمزيد الفائدة جواب السؤال رقم: (252890).
الأمر الخامس:
أن تسمية المهر أجرا إنما هو على سبيل التشبيه لا الحقيقة ، وإلا .. فالعقد هو عقد نكاح لا عقد إجارة ، ولكن لما كان المهر فيه بعض الشبه بالأجرة؛ سمى المهر أجرا .
ولا يلزم من حصول الشبه بين شيئين، أن يكونا متطابقين تماما ، بل قد تكون أوجه الاختلاف أكثر من أوجه الشبه ، وهذا هو الواقع بين المهر والأجرة ، فلا يتشابهان إلا في ظاهر الأمر فقط ، وما بينهما من الفروق أكثر مما يتشابهان فيه.
ووجه الشبه : أن المهر في مقابلة عدة منافع ، ومنها منفعة الاستمتاع ، والمال الذي يدفع مقابل المنفعة يسمى أجرًا .
ولعله لذلك عبر الله تعالى عن المهر بأنه "نحلة"؛ فقال: ( وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ) النساء/4.
قال ابن عاشور، رحمه الله: " والنحلة- بكسر النون- العطية بلا قصد عوض، ويقال: نحل- بضم فسكون-.
وانتصب (نِحلةً) على الحال من صدقاتهن ... ويجوز أن يكون نحلة منصوبا على المصدرية لـ(آتوا)؛ لبيان النوع من الإيتاء؛ أي: إعطاء كرامة.
وسميت الصدُقات: نِحلة؛ إبعادا للصدقات عن أنواع الأعواض، وتقريبا بها إلى الهدية، إذ ليس الصداق عوضا عن منافع المرأة عند التحقيق؛ فإن النكاح عقد بين الرجل والمرأة، قُصد منه المعاشرة، وإيجاد آصرة عظيمة، وتبادل حقوق بين الزوجين، وتلك أغلى من أن يكون لها عوض مالي.
ولو جُعل؛ لكان عوضها جزيلا، ومتجددا بتجدد المنافع، وامتداد أزمانها، شأنَ الأعواض كلها، ولكن الله جعله هدية واجبة على الأزواج، إكراما لزوجاتهم.
وإنما أوجبه الله لأنه تقرر أنه الفارق بين النكاح وبين المخادنة والسفاح، إذ كان أصل النكاح في البشر اختصاص الرجل بامرأة تكون له دون غيره، فكان هذا الاختصاص يُنال بالقوة، ثم اعتاض الناس عن القوة، بذلَ الأثمان لأولياء النساء، ببيعهم بناتهم ومَوْلِيَّاتهم، ثم ارتقى التشريع وكمل عقد النكاح، وصارت المرأة حليلة الرجل، شريكته في شؤونه، وبقيت الصدقات أمارات على ذلك الاختصاص القديم، تُميزُ عقد النكاح عن بقية أنواع المعاشرة المذمومة شرعا وعادة، وكانت المعاشرة على غير وجه النكاح خالية عن بذل المال للأولياء، إذ كانت تنشأ عن الحب أو الشهوة من الرجل للمرأة على انفراد وخفية من أهلها، فمن ذلك الزنى الموقت، ومنه المخادنة، فهي زنا مستمر، وأشار إليها القرآن في قوله: ( محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان ) [النساء: 25]، ودون ذلك البغاء، وهو الزنا بالإماء بأجور معينة، وهو الذي ذكر الله النهي عنه بقوله: ( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ) [النور: 33] وهنالك معاشرات أخرى، مثل الضماد، وهو أن تتخذ ذاتُ الزوج رجلا خليلا لها في سنة القحط، لينفق عليها مع نفقة زوجها.
فلأجل ذلك: سمى الله الصداق نحلة؛ فأبعد الذين فسروها بلازم معناها، فجعلوها كناية عن طيب نفس الأزواج أو الأولياء بإيتاء الصدقات، والذين فسروها بأنها عطية من الله للنساء فرضها لهن، والذين فسروها بمعنى الشرع الذي يُنتحل أي يتبع." انتهى، من "التحرير والتنوير" (4/230-231).
والله أعلم.
تعليق