الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 - 22 نوفمبر 2024
العربية

ما لا يدخل في سب الدهر وقولهم لهيب أغسطس

353308

تاريخ النشر : 23-03-2022

المشاهدات : 5388

السؤال

قرأت أحاديث تنهى عن سب الدهر، وبعد ذلك عندما قرأت كلاماً معيناً احترت، لم أستطع أن أفرق إذا ما كان مما يقصد به الخبر المحض دون اللوم، أم إنه سب للدهر بحد ذاته بسبب الأشياء المكروهة التي حدثت فيه، وأكثر ما حيرني هو وصفه لشهر بالتخبط، وشهرٍ آخر بالضياع، مثال: "ديسمبر، يا آخر ملامح هذا العام، كن لطيفاً، كن مهداً لأحلامنا، أطفئ لهيب أغسطس، وهدئ ضياع سبتمبر، ونزاعات أكتوبر وتخبط نوفمبر، كن خلاصة لكل أوجاع هذا العام"، وأرى بإنه من الممكن أن يعود هذا الوصف على حال الناس، وليس المقصود به الأشهر، فما رأيكم؟ أولم يكن أيضاً من الأولى أن يدعو ربه بدلاً عن مخاطبة شهورٍ لا تنفع من دون الله تعالى، كأن يقول: "اللهم إنا نسألك خير ما في هذا الشهر، وخير ما بعده، ونعوذ بك من شر ما في هذا الشهر، وشر ما بعده، اللهم اكتب لنا الخير والسعادة والتوفيق فيه، واجعله بداية أجمل الأقدار، وحقق لنا ما نتمنى، وارزقنا من حيث لا نحتسب".

الجواب

الحمد لله.

أولا:

جاء النهي عن سب الدهر؛ لأن الدهر هو الزمان وما فيه من حوادث، وهذه لا تملك شيئا، إنما الذي يصرفها هو الله، فمن سب الدهر وعابه، رجع سبه إلى الله الذي يصرف الدهر ويقلبه.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي الأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ  رواه البخاري (4826)، ومسلم (2246).

وفي رواية لمسلم: لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ، فَإِنَّ اللهَ هُوَ الدَّهْرُ .

وفي رواية: لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ، فَإِنَّ اللهَ هُوَ الدَّهْرُ .

وفي رواية:  قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: " يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَقُولُ: يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ؛ فَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ، فَإِنِّي أَنَا الدَّهْرُ، أُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ، فَإِذَا شِئْتُ قَبَضْتُهُمَا.

قال النووي رحمه الله: " قالوا: هو مجاز، وسببه: أن العرب كان شأنها أن تسب الدهر عند النوازل والحوادث والمصائب النازلة بها، من موت أو هرم أو تلف مال أو غير ذلك، فيقولون: " يا خيبة الدهر" ، ونحو هذا من ألفاظ سب الدهر؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر "؛ أي: لا تسبوا فاعل النوازل، فإنكم إذا سببتم فاعلها، وقع السب على الله تعالى، لأنه هو فاعلها ومنزلها، وأما الدهر الذي هو الزمان: فلا فعل له، بل هو مخلوق من جملة خلق الله تعالى.

ومعنى " فإن الله هو الدهر " أي: فاعل النوازل والحوادث وخالق الكائنات، والله أعلم " انتهى من "شرح مسلم"(15/3).

ثانيا:

ليس من السب أن يصف الإنسان شيئا يتعلق بالزمان، دون لوم أو اعتراض، وإنما لمجرد الخبر والوصف، كما لو قال: يوم شديد الحر، أو يوم عصيب، أو أيام نحسات، أو عام جدب، أو قحط.

ومن ذلك قول لوط عليه السلام:  هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ  هود/77، وكقوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ القمر/19، وقوله: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ فصلت/16، ونحو هذا مما فيه وصف أو إخبار عن الشدة والقسوة، ولا يراد به سب اليوم أو ذمه، ففرق بين الإخبار المجرد، وبين إرادة الذم والسب والتنقص.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " وسب الدهر ينقسم إلى ثلاثة أقسام :

الأول : أن يقصد الخبر المحض دون اللوم ، فهذا جائز، مثل أن يقول: تعبنا من شدة حر هذا اليوم أو برده، وما أشبه ذلك؛ لأن الأعمال بالنيات، ومثل هذا اللفظ صالح لمجرد الخبر، ومنه قول لوط عليه الصلاة والسلام: (هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ) هود/77 .

الثاني : أن يسب الدهر على أنه هو الفاعل، كأن يعتقد بسبه الدهر أن الدهر هو الذي يقلب الأمور إلى الخير والشر ؛ فهذا شرك أكبر لأنه اعتقد أن مع الله خالقا ؛ لأنه نسب الحوادث إلى غير الله ، وكل من اعتقد أن مع الله خالقا فهو كافر ، كما أن من اعتقد أن مع الله إلها يستحق أن يعبد فإنه كافر.

الثالث : أن يسب الدهر لا لاعتقاد أنه هو الفاعل، بل يعتقد أن الله هو الفاعل، لكن يسبه لأنه محل لهذا الأمر المكروه عنده ؛ فهذا محرم، ولا يصل إلى درجة الشرك، وهو من السفه في العقل والضلال في الدين؛ لأن حقيقة سبه تعود إلى الله سبحانه؛ لأن الله تعالى هو الذي يصرف الدهر ويكون فيه ما أراد من خير أو شر، فليس الدهر فاعلا، وليس هذا السب بكفر؛ لأنه لم يسب الله تعالى مباشرة " انتهى من "مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين" (10/823).

وسئل رحمه الله: " هل هناك تعارض بين قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الدهر فأنا الدهر) وبين قوله في حديث آخر: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها) إلى آخر الحديث؟

فأجاب : أولاً: الحديث الثاني الذي ذكرت في صحته نظر عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وإذا قدّر أنه صحيح؛ فإن هذا لا ينافي قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الدهر) لأن هذا خبر، والسبّ يقصد به اللوم والعيب والعتب على المسبوب . ومعنى كونه خبراً: أن الدنيا ليس فيها خير، لا هي ولا ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه وعالم أو متعلم، وفرق بين الخبر والإنشاء، وأما السب ففيه إنشاء، إنشاء اللوم والقدح للمسبوب، وأما الخبر فهو خبرٌ عن حال الشخص أو عن حال الشيء، كقول لوط عليه الصلاة والسلام: (هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ) هود/77، هو لم يُرد أن يسب هذا اليوم ويقدح فيه، لكنه أراد أن يخبر بأنه يوم شديد عليه، فيجب الفرق بين الإنشاء والقدح والذم وبين مجرد الخبر، وهذا حسب نية الإنسان، لكن الغالب في قول القائل: لا بارك الله في هذا اليوم، وقول القائل: لا بارك الله في الساعة التي أتت بك، هذا في الغالب يراد به السب، فلينتبه اللبيب للفروق الدقيقة " انتهى من "لقاء الباب المفتوح" (39/ 14).

ثالثا:

مخاطبة الشهور على هذا النحو لا حرج فيها ولا يراد منها سؤال الشهر ودعاؤه، ومثله خطاب الأطلال والشجر والجمادات، وإنما يراد به أغراض أخرى كالتحسر والتوجع والتمني والتعجب وغير ذلك.

ثم: العبارات المذكورة لا يظهر فيها سب، وإنما هي وصف يعود بعضه على الأشهر كقوله: " أطفئ لهيب أغسطس"، وبعضه على الناس وحالهم في هذه الأشهر من الضياع والنزاع والتخبط، وهو كلام لا قيمة له، وما كان لتنشغل به؛ إذ لا معنى ولا مبنى، بل هو كلام ركيك متكلف؛ فينبغي تركه على كل حال، والانشغال بما ينفع ويفيد، من القول والعمل.

وينظر: جواب السؤال رقم:(237968). 

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب