الحمد لله.
فضل الجهاد ورفعة منزلة المجاهد
دلت النصوص على فضل الجهاد ورفعة منزلة المجاهد، كقوله تعالى: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) النساء/95-96.
وقوله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) آل عمران/169-171.
وروى البخاري (2785) عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الجِهَادَ؟ قَالَ: لاَ أَجِدُهُ قَالَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ المُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ وَلاَ تَفْتُرَ، وَتَصُومَ وَلاَ تُفْطِرَ؟، قَالَ: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؟
وروى مسلم (1878) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: :قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ قَالَ: (لَا تَسْتَطِيعُونَهُ)، قَالَ: فَأَعَادُوا عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: (لَا تَسْتَطِيعُونَهُ)، وَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ: (مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللهِ، لَا يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ، وَلَا صَلَاةٍ، حَتَّى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى).
وروى مسلم (1884) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (يَا أَبَا سَعِيدٍ، مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ)، فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعِيدٍ، فَقَالَ: أَعِدْهَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللهِ، فَفَعَلَ، ثُمَّ قَالَ: (وَأُخْرَى يُرْفَعُ بِهَا الْعَبْدُ مِائَةَ دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)، قَالَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ).
وروى الترمذي (1650) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: "مَرَّ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِعْبٍ فِيهِ عُيَيْنَةٌ مِنْ مَاءٍ عَذْبَةٌ فَأَعْجَبَتْهُ لِطِيبِهَا، فَقَالَ: لَوِ اعْتَزَلْتُ النَّاسَ، فَأَقَمْتُ فِي هَذَا الشِّعْبِ، وَلَنْ أَفْعَلَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: (لَا تَفْعَلْ، فَإِنَّ مُقَامَ أَحَدِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ سَبْعِينَ عَامًا، أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَيُدْخِلَكُمُ الجَنَّةَ، اغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ) وحسنه الترمذي، والألباني.
السبب في رفعة المجاهد وعلو منزلته
والسبب في تفضيل هذه العبادة ورفعة شأن صاحبها ظاهر؛ لأنه يبيع نفسه لله، ويبذلها رخيصة لإعلاء كلمته، ونشر دينه؛ فيكرمه الله تعالى ويحبه ويرفع درجته؛ وأي شيء بعد أن يجود بنفسه رخيصة، لأجل رضوان الله:
يَجُودُ بالنَّفْسِ إِنْ ضَنَّ الجَوادُ بِها * والجودُ بالنَّفْسِ أَقْصَى غايةِ الجُودِ
ويجتمع في عبادة الجهاد: الصبر، والتوكل، والإيثار، والبذل، ومحبة لقاء الله، ومحبة نصرة دينه، وغير ذلك.
ثم هو فضل الله تعالى، تفضل به على المجاهد.
قال الحافظ ابن حجر في شرح حديث أبي هريرة " دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الجِهَادَ؟ قَالَ: «لاَ أَجِدُهُ..." : " وفيه أن الفضائل لا تدرك بالقياس ؛ وإنما هي إحسان من الله تعالى لمن شاء" انتهى من "فتح الباري"(6/5).
فالله سبحانه بعلمه وحكمته جعل للجهاد هذا الفضل. وقد قال الله تعالى: ( ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ) النساء/70، وقال تعالى: ( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) الجمعة/4.
وقد ذكر ولي الله الدهلوي في كتابه "حجة الله البالغة" (2/264) أسبابا اقتضت تفضيل الجهاد، فقال رحمه الله: " وفضائل الْجِهَاد رَاجِعَة إِلَى أصُول:
مِنْهَا : أَنه مُوَافقَة تَدْبِير الْحق وإلهامه، فَكَانَ السَّعْي فِي إِتْمَامه سَببا لشمُول الرَّحْمَة، وَالسَّعْي فِي إِبْطَاله سَببا لشمُول اللَّعْنَة، والتقاعد عَنهُ فِي مثل هَذَا الزَّمَان تفويتا لخير كثير.
وَمِنْهَا : أَن الْجِهَاد عمل شاق يحْتَاج إِلَى تَعب وبذل مَال ومهجة وَترك الأوطان والأوطار، فَلَا يقدم عَلَيْهِ إِلَّا من أخْلص دينه لله وآثر الْآخِرَة على الدُّنْيَا، وَصَحَّ اعْتِمَاده على الله.
وَمِنْهَا : أَن نفث مثل هَذِه الداعية فِي الْقلب لَا يكون إِلَّا بتشبه الْمَلَائِكَة، وأحظاهم بِهَذَا الْكَمَال أبعدهم عَن شرور البهيمية ، وأطرفهم من رسوخ الدّين فِي قلبه، فَيكون مُعَرفا لِسَلَامَةِ صَدره.
هَذَا كُله إِن كَانَ الْجِهَاد على شَرطه، وَهُوَ مَا سُئِلَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِن الرجل يُقَاتل شجاعة وَيُقَاتل حمية فَأَي ذَلِك فِي سَبِيل الله؟ فَقَالَ: من قَاتل لتَكون كلمة الله هِيَ الْعليا فَهُوَ فِي سَبِيل الله ".
وَمِنْهَا : أَن الْجَزَاء يتَحَقَّق بِصُورَة الْعَمَل يَوْم الْقِيَامَة، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يُكلم أحد فِي سَبِيل الله، وَالله أعلم بِمن يكلم في سَبيله إِلَّا جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة وجرحه يثغب دَمًا، اللَّوْن لون الدَّم، وَالرِّيح ريح الْمسك ".
وَمِنْهَا : أَن الْجِهَاد لما كَانَ أمرا مرضيا عِنْد الله تَعَالَى، وَهُوَ لَا يتم فِي الْعَادة إِلَّا بأَشْيَاء من النَّفَقَات ورباط الْخَيل وَالرَّمْي وَنَحْوهَا؛ وَجب أَن يتَعَدَّى الرِّضَا إِلَى هَذِه الْأَشْيَاء من جِهَة إفضائها إِلَى الْمَطْلُوب.
وَمِنْهَا : أَن بِالْجِهَادِ تَكْمِيل الْملَّة وتنويه أمرهَا وَجعله فِي النَّاس كالأمر اللَّازِم.
فَإِذا حفظت هَذِه الْأُصُول انكشفت لَك حَقِيقَة الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي فَضَائِل الْجِهَاد.
قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِن فِي الْجنَّة مائَة دَرَجَة أعدهَا الله للمجاهدين " الحَدِيث.
أَقُول: سره أَن ارْتِفَاع الْمَكَان فِي دَار الْجَزَاء: تِمْثَال لارْتِفَاع المكانة عِنْد الله، وَذَلِكَ بِأَن تسكب النَّفس سعادتها من التطلع للجبروت وَغير ذَلِك، وَبِأَن يكون سَببا لاشتهار شَعَائِر الله وَدينه، وَسَائِر مَا يَرضى اللهُ باشتهاره، وَلذَلِك كَانَت الْأَعْمَال الَّتِي هِيَ مَظَنَّة هَاتين الخصلتين جزاؤها الدَّرَجَات فِي الْجنَّة، فورد فِي تالي الْقُرْآن أَنه يُقَال لَهُ: ( اقْرَأ وارتق ورتل كَمَا كنت ترتل فِي الدُّنْيَا ) ، وَورد فِي الْجِهَاد أَنه سَبَب رفع الدَّرَجَات ، فَإِن عمله يُفِيد ارْتِفَاع الدّين، فيجازى بِمثل مَا تضمنه عمله.
ثمَّ إِن ارْتِفَاع المكانة يتَحَقَّق بِوُجُوه كَثِيرَة، فَكل وَجه يتَمَثَّل دَرَجَة فِي الْجنَّة، وَإِنَّمَا كَانَ كل دَرَجَة كَمَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض، لِأَنَّهُ غَايَة مَا يمكن فِي عُلُوم الْبشر من الْبعد الفوقانى، فيتمثل فِي دَار الْجَزَاء كَمَا تمكن فِي علومهم.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مثل الْمُجَاهِد فِي سَبِيل الله كَمثل القانت الصَّائِم ".
أَقُول: سره أَن الصَّائِم القانت إِنَّمَا فضل على غَيره بِأَنَّهُ عمل عملا شاقا لمرضاة الله، وَأَنه صَار بِمَنْزِلَة الْمَلَائِكَة ومتشبها بهم، والمجاهد إِذا كَانَ جهاده على مَا أَمر الشَّرْع بِهِ، يُشبههُ فِي كل ذَلِك. غير أَن الِاجْتِهَاد فِي الطَّاعَات يسلّم فضلَه النَّاس، وَهَذَا لَا يفهمهُ إِلَّا الْخَاصَّة، فَشبه بِهِ لينكشف الْحَال" انتهى.
والله أعلم.
تعليق