الحمد لله.
أولا:
التوكل هو الاعتماد على الله، والثقة به، وتفويض الأمر إليه.
قال ابن القيم رحمه الله: " فإن قلت: فما معنى التوكل والاستعانة؟
قلت: هو حال للقلب ينشأ عن معرفته بالله تعالى، والإيمان بتفرده بالخلق والتدبير والضر والنفع، والعطاء والمنع، وأنه ما شاء كان وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن وإن شاءه الناس، فيوجب له هذا اعتمادا عليه، وتفويضا إليه، وطمأنينة به، وثقة به، ويقينا بكفايته لما توكل عليه فيه، وأنه مليّ به، ولا يكون إلا بمشيئته، شاءه الناس أم أبوه " انتهى. "مدارج السالكين" (1/103).
وقال الراغب الأصبهاني رحمه الله: "والتَّوَكُّلُ يقال على وجهين، يقال:
تَوَكَّلْتُ لفلان بمعنى: تولّيت له، ويقال: وَكَّلْتُهُ فَتَوَكَّلَ لي.
وتَوَكَّلْتُ عليه بمعنى: اعتمدته قال عزّ وجلّ: (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [التوبة/ 51] ، (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق/ 3] ، (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا) [الممتحنة/ 4] ، (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا) [المائدة/ 23] ، (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا) [النساء/ 81] ، (وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) [هود/ 123] ، (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) [الفرقان/ 58] " انتهى من "المفردات في غريب القرآن"، ص 882.
فيتوكل العبد على الله في حفظ إيمانه، وفي إعانته وإمداده، وفي خروجه ودخوله، وفي تحصيل ما يريد من أمر الدنيا والآخرة؛ وكلما أراد أمرا، بذل أسبابه، معتمدا على الله في حصوله.
فالتوكل يتعلق بجميع ما يحتاجه العبد، وأفضله ما كان متعلقا بالواجبات.
قال ابن القيم رحمه الله: " فأهل السماوات والأرض - المكلفون وغيرهم - في مقام التوكل، وإن تباين متعلق توكلهم:
فأولياؤه، وخاصته: يتوكلون عليه في الإيمان، ونصرة دينه، وإعلاء كلمته، وجهاد أعدائه، وفي محابِّه وتنفيذ أوامره.
ودون هؤلاء: من يتوكل عليه في استقامته في نفسه، وحفظ حاله مع الله، فارغا عن الناس.
ودون هؤلاء من يتوكل عليه، في معلومٍ يناله منه؛ مِن رِزق، أو عافية، أو نصر على عدو، أو زوجة أو ولد، ونحو ذلك.
ودون هؤلاء من يتوكل عليه في حصول الإثم والفواحش. فإن أصحاب هذه المطالب لا ينالونها غالبا إلا باستعانتهم بالله. وتوكلهم عليه، بل قد يكون توكلهم أقوى من توكل كثير من أصحاب الطاعات. ولهذا يُلقون أنفسهم في المتالف والمهالك، معتمدين على الله أن يسلمهم، ويظفرهم بمطالبهم.
فأفضل التوكل، التوكل في الواجب - أعني واجب الحق، وواجب الخلق، وواجب النفس - وأوسعه وأنفعه التوكل في التأثير في الخارج في مصلحة دينية. أو في دفع مفسدة دينية، وهو توكل الأنبياء في إقامة دين الله، ودفع فساد المفسدين في الأرض، وهذا توكل ورثتهم. ثم الناس بعد في التوكل على حسب هممهم ومقاصدهم، فمن متوكل على الله في حصول الملك، ومن متوكل في حصول رغيف.
ومن صدق توكلُه على الله في حصول شيء، ناله.
فإن كان محبوبا له مرضيا: كانت له فيه العاقبة المحمودة.
وإن كان مسخوطا مبغوضا، كان ما حصل له بتوكله مضرة عليه.
وإن كان مباحا، حصلت له مصلحة التوكل، دون مصلحة ما توكل فيه؛ إن لم يستعن به على طاعاته. والله أعلم" انتهى من "مدارج السالكين" (2/ 114).
ثانياً:
لا يكفي في ذلك العزم على التوكل، أو أن ينوي الإنسانُ أن يكون متوكلا في جميع أموره، ثم لا يفعل.
بل ينبغي أن يصاحب التوكل كلُّ عمل.
قال ابن القيم: "وكان شيخُنا رضي الله عنه يقول: المقدور يكتنفه أمران: التوكل قبله، والرضا بعده، فمن توكل على الله قبل الفعل. ورضي بالمقضي له بعد الفعل: فقد قام بالعبودية" انتهى من "مدارج السالكين" (2/ 122).
ومما يعين على التوكل: استحضار ما جاء فيه من النصوص الآمرة به، والمثنية على أهله، ومعرفة أنه عبادة جليلة يثاب المرء عليها، وأنها سبب لحصول المطلوب ودفع المرهوب.
والتوكل كغيره من العبادات يحتاج إلى صبر ومداومة ومجاهدة، وقد ينساه العبد في بعض المواطن، أو يأتي به على ضعف، فلا يحملنه ذلك على اليأس، بل يلوم نفسه، ويعترف بتقصيره، ويسعى لتدارك ما فاته.
وننصحك بمطالعة الكتاب المبارك: "رياض الصالحين"، للإمام النووي، رحمه الله: باب في اليقين والتوكل. وتدبر النصوص الشرعية التي ذكرها فيه.
وإذا أمكنك أن تنظر فيما كتبه ابن القيم رحمه الله في "منزلة التوكل" من كتابه: "مدارج السالكين"؛ فهو خير، وفيه فوائد جليلة.
والله أعلم.
تعليق