الحمد لله.
أولا:
درجة حديث: استأذن أبي النبي صلى الله عليه وسلم فدخل بينه وبين قميصه
روى الإمام أحمد في "المسند" (25/295)، وأبو داود في "سننه" (1669)، و(3476)، وغيرهما: عن كَهْمَس، عَنْ سَيَّارِ بْنِ مَنْظُورٍ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ امْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا: بُهَيْسَةُ، عَنْ أَبِيهَا، قَالَتْ: "اسْتَأْذَنَ أَبِي النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَمِيصِهِ، فَجَعَلَ يُقَبِّلُ وَيَلْتَزِمُ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ: الْمَاءُ، قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ: الْمِلْحُ ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ: أَنْ تَفْعَلَ الْخَيْرَ خَيْرٌ لَكَ ".
وهذا إسناد ضعيف لجهالة بعض رواته وهم: سيار بن منظور، وأبوه، وبهيسة؛ فهؤلاء لم يوثقوا توثيقا معتبرا.
قال ابن القطان الفاسي رحمه الله تعالى:
"وذكر – عبد الحق الإشبيلي - من طريق أبي داود، عن سيار بن منظور، رجل من بني فزارة، عن أبيه، عن امرأة يقال لها بهيسة، عن أبيها، قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما الشيء الذي لا يحل منعه ) الحديث. ثم قال: بهيسة مجهولة، وكذلك الذي قبلها.
هكذا ذكره، وصدق، وبقي عليه أن يبين أن منظورا أيضا لا تُعرف حاله، وكذلك أيضا أبوها، فاعلم ذلك" انتهى من "بيان الوهم والإيهام" (3/262).
وجاء في "إتحاف الخيرة المهرة " للبوصيري (5/525):
"هذا إسناد ضعيف، لجهالة بعض رواته" انتهى.
ونص على تضعيفه العراقي في "التقريب" (6/178).
وقال ابنه في شرحه "طرح التثريب" (6/185): " في هذا الإسناد جهالة ".
وبهذا ضعفه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى، حيث قال:
"وهذا سند ضعيف، سيار بن منظور وبهيسة مجهولان لا يعرفان.
وفى "التلخيص" (3/65) : " وأعله عبد الحق وابن القطان بأن بهيسة لا تعرف، لكن ذكرها ابن حبان وغيره فى الصحابة ".
قلت: لم يثبت لها الصحبة، والحافظ نفسه قد ردّ ذلك على ابن حبان في "التهذيب"، فإنه بعد أن ذكر فيه قول ابن حبان بصحبتها، عقب عليه بقوله:
"وقال ابن القطان: قال عبد الحق: مجهولة، وهي كذلك".
وقال في "التقريب":
" لا تعرف، ويقال إن لها صحبة ".
ولو ثبت ذلك لها، ففي الطريق إليها سيار بن منظور، وهو مجهول كما قال عبد الحق أيضا " انتهى من"إرواء الغليل" (6/7).
وبهذا أيضا ضعفه محققو المسند بقولهم:
"إسناده ضعيف، مسلسل بالمجاهيل" انتهى.
ثانيا:
بيان معنى النهي عن بيع فضل الماء وغيره، في الحديث
هذا الحديث على فرض صحته؛ فإنه يرشد إلى أن المسلم عليه أن لا يمنع فضل الماء، لمن احتاجه، كمن له بئر تكفيه وتكفي غيره، ويحتاج من حوله إلى الشرب منها.
روى مسلم (1565) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ".
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" والمراد بـ "الفضل" ما زاد على الحاجة، ولأحمد من طريق عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة: ( لا يمنع فضل ماء بعد أن يستغنى عنه)، وهو محمول عند الجمهور على ماء البئر المحفورة في الأرض المملوكة، وكذلك في الموات إذا كان بقصد التملك...
وأما البئر المحفورة في الموات – التي ليست ملك لأحد - لقصد الارتفاق، لا التملك؛ فإن الحافر لا يملك ماءها، بل يكون أحق به إلى أن يرتحل.
وفي الصورتين: يجب عليه بذل ما يفضل عن حاجته، والمراد حاجة نفسه وعياله وزرعه وماشيته. هذا هو الصحيح عند الشافعية.
وخص المالكية هذا الحكم بالموات، وقالوا في البئر التي في الملك: لا يجب عليه بذل فضلها، وأما الماء المحرز في الإناء، فلا يجب بذل فضله لغير المضطر على الصحيح " انتهى من"فتح الباري"(5/32).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" الماء خلقه الله في الأصل مشتركا بين العباد والبهائم، وجعله سقيا لهم، فلا يكون أحد أخص به من أحد، ولو أقام عليه...
فأما من حازه في قربته أو إنائه، فذاك غير المذكور في الحديث، وهو بمنزلة سائر المباحات إذا حازها إلى ملكه، ثم أراد بيعها، كالحطب والكلأ والملح، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن يأخذ أحدكم حبله، فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيبيعها، فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه) رواه البخاري...
وليس هذا محل النهي بالضرورة، ولا محل النهي أيضا بيع مياه الأنهار الكبار المشتركة بين الناس؛ فإن هذه لا يمكن منعها، والحجر عليها.
وإنما محل النهي صور، أحدها: المياه المنتقعة من الأمطار إذا اجتمعت في أرض مباحة – ليست مملوكة لأحد -، فهي مشتركة بين الناس، وليس أحد أحق بها من أحد إلا بالتقديم لقرب أرضه، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فهذا النوع لا يحل بيعه ولا منعه، ومانعه عاص مستوجب لوعيد الله ومنع فضله؛ إذ منع فضل ما لم تعمل يداه.
فإن قيل: فلو اتخذ في أرضه المملوكة له حفرة يجمع فيها الماء، أو حفر بئرا، فهل يملكه بذلك، ويحل له بيعه؟ قيل: لا ريب أنه أحق به من غيره... ، وما فضل منه عن حاجته وحاجة بهائمه وزرعه، واحتاج إليه آدمي مثله، أو بهائمه: بذله بغير عوض، ولكل واحد أن يتقدم إلى الماء ويشرب، ويسقي ماشيته، وليس لصاحب الماء منعه من ذلك، ولا يلزم الشارب وساقي البهائم عوض.
وهل يلزمه أن يبذل له الدلو والبكرة والحبل مجانا، أو له أن يأخذ أجرته؟
على قولين، وهما وجهان لأصحاب أحمد، في وجوب إعارة المتاع عند الحاجة إليه؛ أظهرهما دليلا: وجوبه، وهو من الماعون " انتهى من "زاد المعاد"(5/ 708–709).
وأما النهي عن منع الملح، فقد قال الخطابي رحمه الله تعالى:
" معناه: الملح إذا كان في معدنه، في أرض أو جبل غير مملوك، فإن أحدا لا يمنع من أخذه، فأما إذا صار في حيز مالكه، فهو أولى به، وله منعه وبيعه والتصرف فيه، كسائر أملاكه " انتهى من"معالم السنن" (3/129).
عبارة: ( فَدَخَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَمِيصِهِ، فَجَعَلَ يُقَبِّلُ وَيَلْتَزِمُ)
وأما عبارة: فَدَخَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَمِيصِهِ، فَجَعَلَ يُقَبِّلُ وَيَلْتَزِمُ ، فمع ضعف هذا الحديث؛ فهي لم ترد في جميع رواياته.
ويتصور حصول هذا الأمر - حبا من هذا الصحابي لملامسة بشرته بشرة النبي صلى الله عليه وسلم -؛ بأن يكون هذا القميص واسعا يكفي لدخول شخص آخر فيه، ويكون المراد أن يدخل فيه عند صدره ، ونحوه ، كما يحصل مع الجالس، في ملامسة أعلى بدنه، دون أسفله، فهذا يكون مستورا في العادة لآحاد الناس؛ فكيف بالنبي الحيي الكريم؛ عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
والله أعلم.
تعليق