الحمد لله.
أولا :
إذا كانت الماعز أو الأبقار مذبوحة ذبحا شرعيا، فلا إشكال في جواز الاستفادة من عصارة الصفراء، لأنها حينئذ تكون حلالا طاهرة ، لكونها من حيوان مذكى .
ثانيا :
أما إذا كانت مأخوذة من حيوان ميت، فإنها لا تعطى حكم لحمه من حيث النجاسة والحرمة، لأن العصارة ليست جزءا من الحيوان، بل هي في حكم المنفصل، فهي تشبه اللبن في ضرع الحيوان الميت، كما أنها تشبه الأنفحة التي يتم استخلاصها من العجول الصغيرة، وتستعمل في عمل الجبن.
وقد اختلف العلماء في هاتين المسألتين .
ومذهب أبي حنيفة رحمه الله ورواية عن أحمد، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية أن أنفحة الميتة حلال طاهرة، ولا تنجس بموت الحيوان.
قال شيخ الإسلام رحمه الله :
“فَإِنَّ ذَبَائِحَ الْمَجُوسِ حَرَامٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَقَدْ قِيلَ: إنَّ ذَلِكَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَإِذَا صَنَعُوا جُبْنًا – وَالْجُبْنُ يُصْنَعُ بِالْإِنْفَحَةِ – كَانَ فِيهِ هَذَانِ الْقَوْلَانِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ جُبْنَهُمْ حَلَالٌ وَأَنَّ إنْفَحَةَ الْمَيْتَةِ وَلَبَنَهَا طَاهِرٌ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا فَتَحُوا بِلَادَ الْعِرَاقِ أَكَلُوا جُبْنَ الْمَجُوسِ ، وَكَانَ هَذَا ظَاهِرًا شَائِعًا بَيْنَهُمْ ، وَمَا يُنْقَلُ عَنْ بَعْضِهِمْ مِنْ كَرَاهَةِ ذَلِكَ فَفِيهِ نَظَرٌ ، فَإِنَّهُ مِنْ نَقْلِ بَعْضِ الْحِجَازِيِّينَ وَفِيهِ نَظَرٌ. وَأَهْلُ الْعِرَاقِ كَانُوا أَعْلَمَ بِهَذَا ، فَإِنَّ الْمَجُوسَ كَانُوا بِبِلَادِهِمْ ، وَلَمْ يَكُونُوا بِأَرْضِ الْحِجَازِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ : أَنَّ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ كَانَ هُوَ نَائِبَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَلَى الْمَدَائِنِ ، وَكَانَ يَدْعُو الْفُرْسَ إلَى الْإِسْلَامِ ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ السَّمْنِ وَالْجُبْنِ وَالْفِرَاءِ؟ فَقَالَ: الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عفى عَنْهُ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ السُّؤَالُ عَنْ جُبْنِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ ، فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ بَيِّنٌ ، وَإِنَّمَا كَانَ السُّؤَالُ عَنْ جُبْنِ الْمَجُوسِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ سَلْمَانَ كَانَ يُفْتِي بِحِلِّهَا ، وَإِذَا كَانَ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْقَطَعَ النِّزَاعُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَيْضًا : فَاللَّبَنُ وَالْإِنْفَحَةُ لَمْ ي، َمُوتَا وَإِنَّمَا نَجَّسَهُمَا مَنْ نَجَّسَهُمَا لِكَوْنِهِمَا فِي وِعَاءٍ نَجِسٍ ، فَيَكُونُ مَائِعًا فِي وِعَاءٍ نَجِسٍ ، فَالتَّنْجِيسُ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ : عَلَى أَنَّ الْمَائِعَ لَاقَى وِعَاءً نَجِسًا ، وَعَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ نَجِسًا.
فَيُقَالُ أَوَّلًا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَائِعَ يَنْجُسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ السُّنَّةَ دَلَّتْ عَلَى طَهَارَتِهِ لَا عَلَى نَجَاسَتِهِ.
وَيُقَالُ ثَانِيًا: إنَّ الْمُلَاقَاةَ فِي الْبَاطِنِ لَا حُكْمَ لَهَا ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} وَلِهَذَا يَجُوزُ حَمْلُ الصَّبِيِّ الصَّغِيرِ فِي الصَّلَاةِ مَعَ مَا فِي بَطْنِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ” انتهى، “مجموع الفتاوى” (21/103) .
وكلام الشيخ رحمه الله في ذبائح المجوس ، التي نعلم يقينا أنها ميتة ، فمن باب أولى إباحة ذلك مع الشك ، لأن الأصل إباحة ذبيحة أهل الكتاب ، حتى نتيقن أنها لم تذبح ذبحا شرعيا .
وقد اختار علماء اللجنة الدائمة تحريم أكل الجبن المصنوع من أنفحة حيوان لم يذبح ذبحا شرعيا ، بشرط أن نتيقن ذلك ، أما مع الشك فالأصل أنه حلال . ووقع على الفتوى : الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد … الشيخ صالح بن فوزان الفوزان … الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ … الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز.
ينظر : “فتاوى اللجنة الدائمة” (22/264) .
ولكن ما قاله شيخ الإسلام رحمه الله هو الأرجح ، والأقرب إلى عمل الصحابة رضي الله عنهم . وينظر جواب السؤال رقم: (115306).
ويناء على هذا ، فلا حرج في تناول هذا الأملاح الصفراوية ، سواء حصل الشك في مصدرها ، أم عُلم أنها من حيوان ميت .
والله أعلم.
تعليق