الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 - 22 نوفمبر 2024
العربية

سعى للمعصية ثم انحل عزمه، فهل يأثم؟

396663

تاريخ النشر : 09-04-2023

المشاهدات : 10126

السؤال

أغواني الشيطان حتي سعيت لفعل المعصية ، لكن لم افعل، لا أعرف إن كنت تركته للعجز عنه أم ماذا، وعدت للمنزل، ووجدت ضيق في الصدر. هل هذا يكون كالفاعل التام؟ وهل عليّ إثم بالنية؟ وهل هو كإثم الفاعل أم دونه؟ أشعر كأني كسرت حاجزا لم يكن ينبغي كسره، ولم تعد الحياة تطيب لي، ولا أشعر بحماس للإقبال علي الطاعات.

الجواب

الحمد لله.

أولا:

من عزم على معصية، وفعل كل ما في وسعه لفعلها لكن لم تتيسر له، فالأدلة الصحيحة تدل على أنه آثم بذلك ومؤاخذ على ذلك.

قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير قول الله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) آل عمران/135.

قال رحمه الله تعالى:

" في قوله تعالى: (وَلَمْ يُصِرُّوا) حجة واضحة، ودلالة قاطعة لما قال سيف السنة ولسان الأمة القاضي أبو بكر بن الطيب: أن الإنسان يؤاخذ بما وطّن عليه بضميره، وعزم عليه بقلبه من المعصية.

قلت: وفي التنزيل: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)، وقال: (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ )؛ فعوقبوا ،قبل فعلهم، بعزمهم، وسيأتي بيانه.

وفي البخاري: (إِذَا التَقَى المُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالقَاتِلُ وَالمَقْتُولُ فِي النَّارِ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَذَا القَاتِلُ فَمَا بَالُ المَقْتُولِ ؟ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ).

فعلق الوعيد على الحرص وهو العزم ، وألغى إظهار السلاح...

وهذا الذي صار إليه القاضي هو الذي عليه عامة السلف، وأهل العلم من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين، ولا يلتفت إلى خلاف من زعم أن ما يهم الإنسان به، وإن وطن عليه، لا يؤاخذ به.

ولا حجة له في قول عليه السلام: (من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه ، فإن عملها كتبت سيئة واحدة)؛ لأن معنى (فلم يعملها): فلم يعزم على عملها بدليل ما ذكرنا، ومعنى (فإن عملها): أي أظهرها أو عزم عليها بدليل ما وصفنا. وبالله توفيقنا" انتهى من "تفسير القرطبي" (5 /331-332).

وأما إذا انحل هذا العزم مع استطاعة صاحبه المضي فيه؛ فإن كان خوفا من الله تعالى، فهو مثاب. قال الله تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) الرحمن/46.

وقال الله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) النازعات/40-41.

وعلى هذا يحمل حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: قَالَ: (وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ، فَلَمْ يَعْمَلْهَا؛ كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً) رواه البخاري (6491)، ومسلم (131).

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( قَالَتِ الْملَائِكَةُ: رَبِّ، ذَاكَ عَبْدُكَ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً، وَهُوَ أَبْصَرُ بِهِ، فَقَالَ: ارْقُبُوهُ فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِمِثْلِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ) .

رواه مسلم (129) من حديث أبي هريرة. 

وقوله: ( من جَّرايَ ) : أي: من أجلي.

وأما إن كان لغير هذا فهو غير مأجور.

وطالع لمزيد الفائدة جواب السؤال رقم: (180814)، ورقم: (219763).

وذهب كثير من أهل العلم إلى أن المؤاخذة على العزم إذا انحل هذا العزم قبل حدوث الفعل، لا تكون كالمؤاخذة على الفعل.

قال النووي رحمه الله تعالى:

" قال القاضي عياض رحمه الله: عامة السلف وأهل العلم من الفقهاء والمحدثين على ما ذهب إليه القاضي أبو بكر، للأحاديث الدالة على المؤاخذة بأعمال القلوب.

لكنهم قالوا: إن هذا العزم يكتب سيئة ، وليست السيئة التي هم بها؛ لكونه لم يعملها، وقطعه عنها قاطع غير خوف الله تعالى والإنابة، لكن نفس الإصرار والعزم معصية، فتكتب معصية، فإذا عملها كتبت معصية ثانية، فإن تركها خشية لله تعالى كتبت حسنة كما في الحديث: ( إنما تركها من جراي )، فصار تركه لها لخوف الله تعالى ومجاهدته نفسه الأمارة بالسوء فى ذلك وعصيانه هواه حسنة.

فأما الهم الذي لا يكتب: فهي الخواطر التي لا توطن النفس عليها ولا يصحبها عقد ولا نية وعزم...

هذا آخر كلام القاضي. وهو ظاهر حسن لا مزيد عليه" انتهى من "شرح صحيح مسلم" (2/ 151).

ثانيا:

لكن ما سبق بيانه لا يعني أن الإنسان يقنط وييأس، بل جعل الله تعالى المخرج من آثار هذه الذنوب لمن أراد، وهو بالتوبة والأعمال الصالحة.

كما في قوله تعالى: (قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الزمر/53.

وكما في قول الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) الشورى/25.

وكما في قول الله تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا) الفرقان/68–71.

وكما في قول الله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) آل عمران/135 – 136.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

" قد دلت نصوص الكتاب والسنة: على أن عقوبة الذنوب تزول عن العبد بنحو عشرة أسباب:

أحدها: التوبة وهذا متفق عليه بين المسلمين...

السبب الثاني: الاستغفار كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا أذنب عبد ذنبا فقال: أي رب أذنبت ذنبا فاغفر لي، فقال: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي ... )، وفي صحيح مسلم عنه أنه قال: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم)... " انتهى من "مجموع الفتاوى" (7/ 487 - 488).

وكما في حديث أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ) رواه الترمذي (1987)، وقال: " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ".

فكان عليك أن تتبع هذا الذنب بحسنة التوبة التي تمحو الذنوب جميعا، بفضل الله ورحمته، متى ما صحت لصاحبها.

لكنك عالجت هذا الذنب بمخالفة أخرى وهي اليأس والقنوط، وخطرهما عظيم.

قال الله تعالى: (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) يوسف/87.

وقال الله تعالى: (قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) الحجر/56.

وعن فَضَالَة بْن عُبَيْدٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (وَثَلَاثَةٌ لَا تَسْأَلْ عَنْهُمْ: رَجُلٌ نَازَعَ اللهَ رِدَاءَهُ، فَإِنَّ رِدَاءَهُ الْكِبْرِيَاءُ وَإِزَارَهُ الْعِزَّةُ، وَرَجُلٌ شَكَّ فِي أَمْرِ اللهِ، وَالْقَنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) رواه الإمام أحمد (39 / 368)، وصححه محققو المسند، وصححه الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (2/81).

فالواجب أن تتوب من هذا اليأس، ومما صدر منك من المشي في طريق الفاحشة، وتحسن الظن بالله تعالى، فهذا هو المخرج مما صدر منك.

وأما حزنك على ما حصل، فهو وإن كان محمودا، إذا كان بسبب كره المعصية؛ إلا أنه مذموم إذا أضعفك عن الأعمال الصالحة، وقعد بك عن التوبة النصوح، وسير الصالحين.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

" وقد يقترن بالحزن ما يثاب صاحبه عليه ويحمد عليه فيكون محمودا من تلك الجهة لا من جهة الحزن، كالحزين على مصيبة في دينه، وعلى مصائب المسلمين عموما، فهذا يثاب على ما في قلبه من حب الخير وبغض الشر وتوابع ذلك...

وأما إن أفضى إلى ضعف القلب، واشتغاله به عن فعل ما أمر الله ورسوله به؛ كان مذموما عليه من تلك الجهة، وإن كان محمودا من جهة أخرى " انتهى من "مجموع الفتاوى" (10/17).

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:

" ولم يأت الحزن في القرآن إلا منهيا عنه، أو منفيا.

فالنهي: كقوله تعالى ( وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا )، وقوله: ( وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ) في غير موضع، وقوله: ( لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا )، والمنفي كقوله: ( فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ).

وسر ذلك: أن "الحزن" موقف غير مسير، ولا مصلحة فيه للقلب، وأحب شيء إلى الشيطان أن يحزن العبد ليقطعه عن سيره، ويوقفه عن سلوكه، قال الله تعالى: ( إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ).

ونهى النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة: ( أن يتناجى اثنان منهم دون الثالث، لأن ذلك يحزنه ).

فالحزن ليس بمطلوب، ولا مقصود، ولا فيه فائدة، وقد استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ( اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ) فهو قرين الهم، والفرق بينهما: أن المكروه الذي يرد على القلب، إن كان لما يستقبل: أورثه الهم، وإن كان لما مضى: أورثه الحزن، وكلاهما مضعف للقلب عن السير، مفتر للعزم" انتهى من "مدارج السالكين" (2/ 1285–1286).

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب