الحمد لله.
أولا:
روى الإمام مسلم في كتابه "التمييز" (ص 175) عن بكير بن الاشج، قَالَ: قَالَ لنا بسر بن سعيد: "اتَّقوا الله! وتحفظوا من الحَدِيث! فوَاللَّه لقد رَأَيْتنَا نجالس أَبَا هُرَيْرَة فَيحدث عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ويحدثنا عَن كَعْب، ثم يقوم، فأسمع بعض من كان منا يجعل حديث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عن كعب، وَحَدِيث كَعْب عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم".
هذا القول من بسر بن سعيد رحمه الله تعالى، يحمل في طياته جواب ما استشكلته.
فهذا الخبر يبيّن أن أهل الحديث قد تنبهوا منذ عصر الصحابة رضوان الله عليهم إلى أن الراوي لا يكفي لقبول حديثه أن يكون مسلما يحضر مجالس العلم، بل ربما يوجد من بعضهم الأخطاء والأوهام مهما كان دينهم وتقواهم.
قال المعلمي رحمه الله تعالى، معلقا على كلام بسر:
" إنما يقع مثل هذا ممن يحضر المجلس من ضعفاء الضبط ومن لا عناية له بالعلم، ومثل هؤلاء لا يوثقهم الأئمة ولا يحتجون بأخبارهم ولابد أن ينتبهوا لغلطهم...
والحكاية نفسها تدل على أنا أبا هريرة كان يبين، وإنما يقع الغلط لبعض الحاضرين" انتهى من "الأنوار الكاشفة" (ص 163).
فلما رأى علماء الحديث هذه الآفة التي توجد في بعض الرواة، اشترطوا منذ ذلك الزمن في الراوي حتى يقبل حديثه أن يكون معروفا بالضبط والحفظ لما يسمع، فقد تركوا أحاديث كثير من الرواة بسبب عدم ضبطهم للحديث إما عمدا، وإما وهما.
قال الشافعي رحمه الله تعالى:
" وكان ابن سيرين والنخعي وغير واحد من التابعين يذهب هذا المذهب؛ في أن لا يقبل إلا عمن عرف، وما لقيت ولا علمت أحدا من أهل العلم بالحديث يخالف هذا المذهب" انتهى من "الأم" (7/256).
قال ابْنِ سِيرِينَ: " لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الْإِسْنَادِ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ، قَالُوا: سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ، فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ، وَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلَا يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ" رواه مسلم في "مقدمة صحيحه" (1/15).
قال أبو العباس القرطبي رحمه الله تعالى:
" وقوله: ( فلما وقعت الفتنة قالوا : سموا لنا رجالكم ) هذه الفتنة يعني بها - والله أعلم -: فتنة قتل عثمان، وفتنة خروج الخوارج على علي ومعاوية؛ فإنهم كفروهما حتى استحلوا الدماء والأموال... " انتهى من "المفهم" (1/123).
وقال العلائي رحمه الله تعالى:
" وقول ابن سيرين: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد حتى وقعت الفتنة، فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم".
قلت: لأن المبتدعة كذبت أحاديث كثيرة، تشيد بها بدعتها...
قال الإمام الشافعي رحمه الله: كان ابن سيرين، وعروة بن الزبير، وطاووس، وإبراهيم النخعي، وغير واحد من التابعين؛ يذهبون إلى أن لا يقبلوا الحديث إلا عن ثقة يعرف ما يروي، ويحفظ، وما رأيت أحدا من أهل الحديث يخالف هذا المذهب " انتهى من"جامع التحصيل" (ص 69 – 70).
وهذا شرط مجمع عليه.
قال ابن الملقن رحمه الله تعالى:
" فالصحيح المجمع عليه:
ما اتصل إسناده بالعدول الضابطين، من غير شذوذ ولا علة " انتهى من "المقنع" (1/42).
وكانت طرق تمييز الضابط من غيره تكون إما بحكم من معاصريهم من أئمة الحديث، فقد هيّأ الله تعالى في كل عصر من أعصار الرواية أئمة في الحديث ممن اجتمعت كلمة الناس على الحكم بشدة حفظهم وتثبتهم وعدالتهم، فكانوا حكما على غيرهم من الرواة.
قال ابن عدي رحمه الله تعالى:
" وقد أقام الله عز وجل قوما من صحابة نبينا صلى الله عليه وسلم، والتابعين بعدهم، وتابعي التابعين وإلى يومنا هذا من يبين أحوالهم، وينبه على الضعفاء منهم، ويعتبر رواياتهم ليعرف بذلك صحيح الأخبار من سقيمها...
وهم في المرتبة التي يُسْمَع ذلك منهم، ويقبل قولهم فيهم لمعرفتهم بهم، إذ هو علم يدق، ولا يحسنه إلا من فهمه الله ذلك " انتهى من "الكامل في ضعفاء الرجال" (1/78).
وإما بمقارنة الأئمة لأحاديث الراوي بأحاديث غيره من الرواة فيظهر بهذا ضبطه من عدمه.
فبهذه المقارنة تظهر الروايات المنكرة والشاذة والضعيفة، ويتميّز الرواة الثقات من الضعفاء.
قال الإمام مسلم رحمه الله تعالى:
" وعلامة المنكر في حديث المحدث، إذا ما عُرِضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضا، خالفت روايته روايتهم، أو لم تكد توافقها، فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك كان مهجور الحديث، غير مقبوله، ولا مستعمله...
لأن حكم أهل العلم، والذي نعرف من مذهبهم في قبول ما يتفرد به المحدث من الحديث أن يكون قد شارك الثقات من أهل العلم والحفظ في بعض ما رووا، وأمعن في ذلك على الموافقة لهم، فإذا وجد كذلك، ثم زاد بعد ذلك شيئا ليس عند أصحابه قبلت زيادته.
فأما من تراه يعمد لمثل الزهري في جلالته، وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه وحديث غيره، أو لمثل هشام بن عروة، وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك، قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على الاتفاق منهم في أكثره، فيروي عنهما، أو عن أحدهما، العدد من الحديث مما لا يعرفه أحد من أصحابهما، وليس ممن قد شاركهم في الصحيح مما عندهم، فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس " انتهى من "مقدمة صحيح مسلم" (1/6).
وقال رحمه الله تعالى:
" فبجمع هذه الروايات ومقابلة بعضها ببعض، تتميز صحيحها من سقيمها، وتتبين رواة ضعاف الاخبار من أضدادهم من الحفاظ " انتهى من"التمييز" (ص 209).
وقال الشيخ عبد الرحمن المعلمي رحمه الله تعالى:
" من الأئمة من لا يوثِّق من تقدمه حتى يطلع على عدة أحاديث له، تكون مستقيمة، وتكثر حتى يغلب على ظنه أن الاستقامة كانت ملكة لذاك الراوي، وهذا كله يدل على أن جل اعتمادهم في التوثيق والجرح إنما هو على سبر حديث الراوي، وقد صرح ابن حبان بأن المسلمين على الصلاح والعدالة حتى يتبين منهم ما يوجب القدح، نص على ذلك في "الثقات" وذكره ابن حجر في "لسان الميزان" (1 / 14) واستغربه، ولو تدبر لوجد كثيراً من الأئمة يبنون عليه، فإذا تتبع أحدهم أحاديث الراوي، فوجدها مستقيمة تدل على صدق وضبط، ولَم يبلغه ما يوجب طعنا في دينه= وثَّقه. وربما تجاوز بعضهم هذا كما سلف، وربما يبني بعضهم على هذا حتى في أهل عصره " انتهى من "التنكيل" (1/ 256).
فلما جاء البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى، فتشا في الروايات، فلم يدخلا في كتابيهما إلا أحاديث الرواة الذين توفر فيهم شرط الضبط، وقد وافقهم أئمة الحديث الذين أتوا بعدهم، فرأوا أنهما قد حققا هذا الشرط، فلذا مجموع أحاديث الكتابين مما أجمعت الأمة على صحته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" ولكن جمهور متون الصحيحين متفق عليها بين أئمة الحديث، تلقوها بالقبول، وأجمعوا عليها وهم يعلمون علما قطعيا أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها " انتهى من "مجموع الفتاوى" (1 / 257).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" وأهل الحديث متفقون على أحاديث الصحيحين، وإن تنازعوا في أحاديث يسيرة منها جدا، وهم متفقون على لفظها ومعناها، كما اتفق المسلمون على لفظ القرآن ومعناه " انتهى من "الصواعق المرسلة" (2 / 655).
فالحاصل: أن خبر بسر بن سعيد هذا يشير إلى انتباه أئمة الحديث إلى مشكلة أخطاء بعض الرواة، وسبيل معالجة ذلك: إنما يكون بالتفتيش في حال الرواة، فيقبل حديث الحافظ الضابط، ويرد حديث من لا يتقن الحفظ لما يسمعه.
ثانيا:
وأما عبارة:
" ولو ذكرنا الأحاديث المرفوعة التي أعلت بأنها موقوفة: إما على عبدالله بن سلام، أو على كعب ، واشتبهت على بعض الرواة فرفعها ، لطال الأمر".
فمقصود القائل أن هناك أخبارا من كلام بعض الصحابة كعبد الله بن سلام، أو من بعدهم ككعب الأحبار ربما، يخطئ بعض الرواة فينسبونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لكن أهل الحديث يتنبهون لذلك، بمقارنة روايات ذلك الخبر، كما سبق في كلام الإمام مسلم.
وقال الخطيب رحمه الله تعالى:
" والسبيل إلى معرفة علة الحديث: أن يجمع بين طرقه، وينظر في اختلاف رواته، ويعتبر بمكانهم من الحفظ، ومنزلتهم في الإتقان والضبط " انتهى من "الجامع" (2/295).
والله أعلم.
تعليق