الحمد لله.
أولا:
الأمور الدنيوية الحياتية: لا حرج على المسلم أن يجعل لنفسه الطريقة التي تناسبه في توزيع أعماله على اليوم، كما لو جعل وقتا محددا يذهب فيه إلى العمل ، ويعود منه ، ويجعل وقتا محددا لوجبات الطعام ، وممارسة الرياضة ... فهذا لا بأس به ، والأصل في هذه التصرفات أنها مباحة ، لا يصح أن يوصف شيء منها بالبدعة ، لأن البدعة لا تكون إلا فيما يتعلق بالدين ، من العقائد أو العبادات ، أما المعاملات الدنيوية ، فلا يوصف شيء منها بالبدعة الشرعية المذمومة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان : عبادات يصلح بها دينهم ، وعادات يحتاجون إليها في دنياهم ، فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع . وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه ، والأصل فيه عدم الحظر ، فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى ... والعادات الأصل فيها العفو ، فلا يحظر منها إلا ما حرمه ، وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى : ( قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ) .
ولهذا ذم الله المشركين الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله وحرموا ما لم يحرمه ... وهذه قاعدة عظيمة نافعة" انتهى من "مجموع الفتاوى" (29 / 16-18) .
ثانيا :
وأما تنظيم الوقت من أجل العبادة ، فقد ورد في الأحاديث شيء من هذا التنظيم .
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الفجر ، ويجلس في مصلاه (المسجد) يذكر الله تعالى أو يتحدث مع أصحابه حتى تطلع الشمس ، فيصلي ركعتين ثم يخرج .
وينظر السؤال رقم: (100009) ، فهذا من تنظيم الوقت في أول اليوم .
أما نهاية اليوم ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يسهر بعد صلاة العشاء ، وإنما يتحدث مع أهله بعض الوقت ثم ينام، ويقوم ثلث الليل الآخر.
وينظر السؤال رقم: (197199) .
ثم إن صلاة المسلم الصلوات الخمس جماعة في المسجد يلزم منه أن المسلم ينظم وقته اليومي تبعا لأوقات الصلوات ، حتى لا تتعارض أعماله مع حضوره للصلاة في المسجد .
فإذا نظم المسلم يومه ، فجعل –مثلا- بعد صلاة الفجر لقراءة القرآن ومراجعته ، وبعد الظهر لقراءة كتب الفقه أو العقيدة أو غيرها ، وبعد العصر لحضور مجلس من مجالس العلم ، وبعد المغرب للجلوس مع أولاده لتربيتهم وتعليمهم ... ونحو ذلك ؛ فلا يوصف شيء من ذلك كله بأنه بدعة ، لأن المسلم لا يتقرب إلى الله تعالى بهذا التنظيم، ولا يعتقد أن هذا التنظيم في حد ذاته عبادة يتقرب بها إلى الله ، بل هو وسيلة لإتمام أعماله ، وعدم نسيان شيء منها ، أو التقصير في القيام به .
والبدعة لا تدخل فيما كان من الوسائل .
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : هل هناك تسمية تسمى بدعة حسنة وبدعة سيئة أم لا؟
فأجاب :
"لا يمكن أن يقال عن البدعة في دين الله: إنها بدعةٌ حسنـة أبداً مع قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: كل بدعةٍ ضلالة. فإن هذه الجملة؛ أعني : (كل بدعةٍ ضلالة) صدرت من أفصح الخلق محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وأنصح الخلق ، وأعلم الخلق بشرع الله، وأعلم الخلق بمدلول خطابه، وقد قال هذه الجملة العامة: (كل بدعةٍ ضلالة) فكيف يأتي إنسانٌ بعد ذلك، فيقول: البدعة منها ما هو بدعةٌ سيئة، ومنها ما هو بدعةٌ حسنة. وهل هذا إلا إخراج لقول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن ظاهره، فالبدعة كلها بدعةٌ سيئة ، والبدعة كلها ضلالة.
لكن قد يستحسن الإنسان شيئاً يظنه بدعة وما هو ببدعة، وقد يستحسن شيئاً، وهو بدعة يظنه حسناً، وما هو بحسن، أما أن يجتمع كونه بدعة وكونه حسناً، فهذا لا يمكن أبداً؛ فمثلاً قد يقول القائل: بناء المدارس بدعة؛ لأنها لم تكن معروفة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه بدعةٌ حسنة.
فنقول: لا شك أن بناء المدارس حصل، لكنه ليس البدعة التي أرادها الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ إذ إن بناء المدارس وسيلة لتنظيم الدراسة، وتهيئة الدروس للدارسين، وليس مقصوداً في ذاته؛ بمعنى أننا لسنا نتعبد لله تعالى، ببناء المدارس على أن البناء نفسه عبادة؛ ولكن نتعبد لله تعالى ببناء المدارس على أنها وسيلةٌ؛ لحفظ العلم، وتنظيم العلم، ووسيلةُ المقصود مقصودة؛ ولهذا كان من القواعد المقررة عند العلماء أن للوسائل أحكام المقاصد ...
وخلاصة القول:
أنه لا يمكن أن تكون البدعة الشرعية تنقسم إلى قسمين؛ حسنة، وسيئة، مع قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (كل بدعةٍ ضلالة) ، وأن ما ظنه بعض الناس بدعةً، وهو حسن؛ فإن ظنه إياه بدعة خطأ، وما ظنه الإنسان حسناً، وهو بدعة حقيقةً؛ فإن ظنه أنه حسن خطأ" انتهى .
وسئل الشيخ أيضا رحمه الله: "نرجو من فضيلتكم التكرم بإفادتنا عما إذا كان تحديد موعد منتظم أسبوعياً لإلقاء محاضرة دينية، أو حلقة علم، بدعة منهيًّا عنها، باعتبار طلب العلم عبادة والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن يحدد موعداً لهذه العبادة. وتبعاً لذلك هل إذا اتفق مجموعة من الإخوة على الالتقاء في المسجد ليلة محددة كل شهر لقيام الليل، هل يكون ذلك بدعة مع إيراد الدليل على ذلك؟
فأجاب :
"إن تحديد يوم معين منتظم لإلقاء محاضرة، أو حلقة علم ليس ببدعة منهي عنها، بل هو مباح، كما يقرر يوم معين في المدارس والمعاهد لحصة الفقه، أو التفسير أو نحو ذلك.
ولا شك أن طلب العلم الشرعي من العبادات ، لكن توقيته بيوم معين تابع لما تقتضيه المصلحة، ومن المصلحة أن يعين يوم لذلك حتى لا يضطرب الناس. وطلب العلم ليس عبادة مؤقتة بل هو بحسب ما تقتضيه المصلحة والفراغ.
لكن لو خص يوماً معيناً لطلب العلم باعتبار أنه مخصوص لطلب العلم وحده فهذا هو البدعة.
وأما اتفاق مجموعة على الالتقاء في ليلة معينة لقيام الليل فهذا بدعة؛ لأن إقامة الجماعة في قيام الليل غير مشروعة إلا إذا فعلت أحياناً وبغير قصد ، كما جرى للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
كتبه محمد الصالح العثيمين في 28/5/1415 هـ." انتهى من "مجموع الفتاوى" (26/182).
والله أعلم
تعليق