الحمد لله.
كانت علاقة النبي عليه الصلاة والسلام بعمه أبي طالب علاقة وثيقة، ويمكننا تلخيصها على النحو التالي:
(1) بعد وفاة والدي النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم كان النبي يَعيشُ فِي كَنَفِ جَدِّهِ عَبدِ المُطَّلبِ، حتَّى إذَا بَلغَ ثَمانِيَ سنوات من عمره، حضَرَتْ جَدَّهُ عَبدَ المُطلبِ الوَفاةُ، فأوصَى ابنَهُ أبَا طَالبٍ بحِفظِهِ وحيَاطَتِهِ، ثُم ماتَ عبدُ المُطلبِ، ودُفِنَ بالحُجُونِ.
فلمَّا أخذَ أبُو طالبٍ رسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أحبَّهُ حبًّا شدِيدًا لَم يُحبَّهُ لولَدِهِ، فكَانَ يكُونُ معُه في غَالبِ أحوَالِهِ، فلا ينَامُ إلا إلى جَنبِهِ، وإذَا خَرجَ أخذَهُ مَعهُ. انظر: "الرحيق المختوم" (ص57-58).
(2) ولمَّا أرادَ أبُو طالبٍ أن يَخرُجَ في تجارَةٍ إلى الشَّامِ، وتَهيَّأَ للرَّحيلِ، تَعلقَ بهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فرَقَّ لهُ أبُو طالبٍ وقَالَ: واللهِ لأخرُجَنَّ بهِ مَعِي، لا أفارِقُهُ ولا يُفارقُنِي أبدًا. انظر: "الرحيق المختوم" (ص58-59).
(3) لما بعث رسول الله عليه الصلاة والسلام وعاداه الكفار من قومه، صانه عمه أبو طالب على الرغم من كونه لم يسلم.
قال الحافظ ابن كثير: "وصان الله رسوله صلى الله عليه وسلم وحماه بعمه أبي طالب؛ لأنه كان شريفا مطاعا فيهم نبيلًا بينهم، لا يتجاسرون على مفاجأته بشيء في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، لما يعملون من محبته له، وكان من حكمة الله بقاؤه على دينهم لما في ذلك المصلحة" انتهى من "الفصول في سيرة الرسول" (ص99).
(4) مما وثق العلاقة بينهما رعاية النبي لابن عمه عَليّ بنِ أَبي طَالبٍ، فكَانَ ممَّا أنعَمَ اللهُ بِهِ عَليهِ أنَّهُ كانَ يَعيشُ فِي حِجرِ رسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَبلَ الإسلَامِ، وذَلكَ أن قُرَيشًا أصَابَتهُم أزمَةٌ شَديدةٌ، وكَانَ أبُو طالبٍ ذَا عيالٍ كَثيرَةٍ، فقالَ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لعَمِّهِ العَبَّاسِ رضي الله عنه _وكانَ مِن أيسَرِ بَنِي هَاشمٍ_: (يَا عبَّاسُ، إنَّ أخاكَ أبًا طالبٍ كثيرُ العِيالِ، وقَد أصابَ الناسَ مَا تَرَى مِن هِذِه الأزمَةِ، فانطَلِقْ حتَّى نُخفِّفَ عَنهُ مِن عيَالِهِ)، فأخَذَ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَليًّا فضمَّهُ إلَيهِ، فلَمْ يزل معَ رسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حتى بعثَهُ اللهُ نَبيًّا، فاتَّبَعَهُ وآمَنَ بهِ وصَدَّقهُ. انظر: "السيرة" لابن هشام (1/246).
(5) لمَّا رأى المُشركُونَ إقبَاَل الناسِ على الإسلامِ، اشتَدُّوا على المُسلمينَ كأشَدِّ مَا كانُوا، حتَّى بلَغَ المُسلمِينَ الجَهدُ واشتَدَّ عَليهمُ البَلاءُ، وأجمَعَتْ قُريشٌ مَكرَهًا عَلى أن يَقتُلُوا رسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلانَيِةً، فلمَّا عَلمَ أبُو طالب بما أجمَعَ عَليِه القومُ، جمعَ بنِي عبدِ المُطلبِ وَأمَرَهُم أن يُدخِلُوا رسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم شِعبَهُم، وأمرَهُم أن يَمنَعُوهُ ممَّن أرادُوا قَتلَهُ، فاجتَمَعُوا على ذَلكَ كُلُّهُم، مُسلِمُهُم، حيثُ فعلَ ذلكَ إيمَانًا ويَقينًا، وكافِرُهُم ممَّن كانَ على خِلافِ ما كانَ عَليهِ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، لَكِن أخَذَتْهُ الحميَّةُ، وأنِفَ أن يَستَذِلَّ ويُسلِمَ أخاهُ –يعني: أبا طالب- إلى الذلِّ والهوَانِ.. انظر: "الرحيق المختوم" (ص109-110).
(6) وبَعدَ مرُوِر ثَلاثِ سِنينَ تَلاومَ رجالٌ مِن بَنِي عَبدِ مَنافٍ، ومن قُصَيٍّ، ورجالٌ مِن سِواهَمْ مِن قريشٍ، ورِأَوْا أنَّهم قد قطعُوا الرحِمَ، واستخَفُّوا بالحَقِّ، واجتمَعَ أمرُهُم مِن لَيلتِهِم عَلى نَقضِ مَا تعَاهَدُوا عَليهِ مِنَ الغَدرِ والبَراءةِ منُه، وبَعثَ اللهُ عَلى صحيفَتِهِم الأَرَضَةَ، فَلَم ُتترُكِ اسمًا للهِ فيِهَا إِلَّا لحَسَتْهُ، وتركَتْ مَا كانَ فيِهَا مِن شِركٍ وظُلمٍ وقَطيعِة رَحمٍ، وأطْلعَ اللهُ عز وجل رسولَهُ على الذِي صنَعَ بصَحيفَتِهِمْ، فذكَرَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذلك لأبِي طالبٍ، فانطلَقَ أبُو طالبٍ يَمشِي بعصَابَتِهِ مِن بنِي عَبدِ المُطلبِ، حتى أتَى المسجِدَ وهو حافِلٌ مِن قُريشٍ، فلمَّا رَأَوْهُم عامِدينَ لجمَاعتِهِم أنكَرُوا ذَلكَ، وظنُّوا أنَّهم خرَجُوا مِن شدَّةِ البلاءِ، فأتَوْهُم ليُعطُوهُم رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فتكلَّمَ أبُو طالبٍ فقالَ: قَد حَدثَتْ أمورٌ بينَكُم لم نَذكُرهَا لَكُم، فَأْتُوا بصَحِيفَتِكُم التي تعاهَدْتُم عَليهَا، فلعَلَّه أن يكُون بَينَنَا وبينكُم صُلحٌ، وإنَّما قالَ ذلكَ خَشيَةَ أن يَنظُرُوا في الصحيفَةِ قَبلَ أن يَأتُوا بِها، فيَعمَدُوا إلى إصلَاحِ مَا فَسَدَ مِنهَا. . انظر: "الرحيق المختوم" (ص110-112).
(7) لمَّا حضَرتْ أبَا طالبٍ الوفَاةُ، دخلَ عَليهِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وعندَهُ أبُو جَهلٍ وعبدُ الله بنُ أَبي أُمَيَّةَ، فقَالَ: (أَي عَمِّ، قُلْ: لَا إلهَ إلَّا اللهُ، كَلِمَةٌ أحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنَد اللهِ).
فقالَ: أبُو جهلٍ وعَبدُ اللهِ بنُ أَبِي أُمَية: يَا أبَا طَالِبٍ، أتَرغَبُ عَن مِلَّةِ عَبِد المُطَّلِبِ؟
فَلَم يَزَلْ رسْولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعرِضُها عَليهِ، ويَعودَان لهُ بِتلكَ المقَالَةِ، حتَّى كانَ آخرَ مَا قَاَلَ: عَلى مِلَّةِ عبدِ المُطَّلبِ.
فقَالَ النبيُ صلى الله عليه وسلم: (لأستَغفِرَنَّ لكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ).
فَنَزَلَ قَولُ اللهِ عز وجل: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ التوبة/113، ونَزَلَت: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ القصص/56. أخرجه البخاري(3884).
وقَد كانَ أبُو طالبٍ يتحَامى لرَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم ويُدافعُ عنهُ، وقالَ فيهِ منَ الممَادِحِ التِي لا تُدانَي ولا تُسَامَى، وأظهَرَ لَهُ مِنَ المَودَّةِ والمَحبَّةِ والشَّفقةِ في أشعَارِهِ مَا لا يُجارَى، وعابَ من خَالفَهُ وكَذَّبَهُ، وهُو في ذَلك َكُلِّهِ يَعلمُ أنَّ رسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم الصَّادقُ البارُّ الراشِدُ، فَلَم تَنَفعْهُ تلكَ المعرفَةُ ولمَ تُغْنِ عنهُ شَيئًا عندَ اللهِ؛ لأنَّهُ لم يؤمِنْ قَلبُهُ، وفَرقٌ بَينَ عِلمِ القلبِ وتَصدِيقِهِ.
وقَد قالَ العباسُ بنُ عَبدِ المُطلبِ لرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أغنَيْتَ عَن عَمِّكَ؟ فإنَّهُ كانَ يَحُوطُكَ ويَغَضَبُ لكَ، فقالَ: (هُوَ في ضَحْضَاحٍ مِن نَارٍ، وَلَولَا أنَا لكَانَ في الدَّرْكِ الأسفَلِ منَ النَّارِ) أخرجه البخاري(3883).
وانظر: "الرحيق المختوم" (ص105-106)، و"السيرة" لابن هشام (1/417-419).
(8) وقد كان رسول الله يحب عمه، ليس حب الدين والعقيدة؛ وإنما حب القرابة، وحب كونه قد ناصره ودفع عنه الأذى، قال الإمام البغوي في "تفسيره" في قوله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ : "أي: أحببت هدايته. وقيل: أحببته لقرابته" انتهى(6/215).
فهذا مختصر ما كان من العلاقة الوثيقة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم لخصناه لك من مصادر السيرة النبوية ومراجعها مثل: "السيرة" لابن هشام، و"الرحيق المختوم".
والله أعلم.
تعليق