الحمد لله.
المستحاضة إذا كانت لها عادة سابقة في حيضها؛ فإنها عند استحاضتها، تجلس في حيضها مقدار عادتها الأولى، وما زاد فهو استحاضة.
وقد دل على ذلك: حديث عَائِشَةَ، أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ، سَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: إِنِّي أُسْتَحَاضُ فَلاَ أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلاَةَ، فَقَالَ: ( لاَ إِنَّ ذَلِكِ عِرْقٌ، وَلَكِنْ دَعِي الصَّلاَةَ قَدْرَ الأَيَّامِ الَّتِي كُنْتِ تَحِيضِينَ فِيهَا، ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي ) رواه البخاري (325)، ومسلم (333).
وعَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: إِنَّ أَمَّ حَبِيبَةَ، سَأَلَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الدَّمِ؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: رَأَيْتُ مِرْكَنَهَا مَلْآنَ دَمًا. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( امْكُثِي قَدْرَ مَا كَانَتْ تَحْبِسُكِ حَيْضَتُكِ، ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي ) رواه مسلم (334).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" والمستحاضة ترد إلى عادتها، ثم إلى تمييزها، ثم إلى غالب عادات النساء، كما جاء في كل واحدة من هؤلاء سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخذ الإمام أحمد بالسنن الثلاث... " انتهى من "مجموع الفتاوى" (19/239).
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى:
" وللمرأة المستحاضة في ذلك ثلاثة أحوال: ...
الحالة الثالثة: أن يكون لها عادة معلومة، فإنها تجلس عادتها، ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة إذا دخل الوقت، ما دام الدم معها، وتحل لزوجها إلى أن يجيء وقت العادة من الشهر الآخر.
وهذا هو ملخص ما جاءت به الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بشأن المستحاضة " انتهى من "مجموع فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز" (10/223).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" للمستحاضة ثلاثة حالات:
الحالة الأولى: أن يكون لها حيض معلوم قبل الاستحاضة: فهذه ترجع إلى مدة حيضها المعلوم السابق، فتجلس فيها ويثبت لها أحكام الحيض، وما عداها استحاضة، يثبت لها أحكام المستحاضة.
مثال ذلك امرأة كان يأتيها الحيض ستة أيام من أول كل شهر، ثم طرأت عليها الاستحاضة فصار الدم يأتيها باستمرار، فيكون حيضها ستة أيام من أول كل شهر، وما عداها استحاضة لحديث عائشة رضي الله عنها: ( أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت: يا رسول الله إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ قال: لا. إن ذلك عرق، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي) . رواه البخاري، وفي صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم حبيبة بنت جحش: ( امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي وصلي ) .
فعلى هذا تجلس المستحاضة التي لها حيض معلوم قدر حيضها ثم تغتسل وتصلي ولا تبالي بالدم حينئذ " انتهى من "مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين" (11/322).
وبناء على هذا:
فالمستحاضة إذا كانت عادتها في الحيض أحيانا ثمانية أيام وأحيانا تسعة أيام؛ فثمانية أيام هي عادة مطردة كل شهر فيحكم لها بأنها أيام حيض.
وأما اليوم التاسع فهو مضطرب، وليس معتادا أن يكون فيه الحيض كل شهر، بل أحيانا وأحيانا، والمستحاضة إذا لم تكن لها عادة ثابتة ترجع إلى التمييز.
لما رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/274)، والدارمي في "السنن" (827) وغيرهما بإسناد صحيح: عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: اسْتُحِيضَتِ امْرَأَةٌ مِنْ آلِ أَنَسٍ، فَأَمَرُونِي فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ؟ فَقَالَ: ( أَمَّا مَا رَأَتِ الدَّمَ الْبَحْرَانِيَّ: فَلاَ تُصَلِّي، وَإِذَا رَأَتِ الطُّهْرَ، وَلَوْ سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ: فَلْتَغْتَسِلْ وَتُصَلِّي )، وصححه محققو الكتابين.
قال ابن رجب رحمه الله تعالى:
" ولعل ابن عباس أراد أن المستحاضة إذا كانت مميزة جلست زمن دمها الأسود، فإذا انقطع الأسود ولو ساعة فإنه زمن طهرها، فتغتسل وتصلي حينئذ.
وقد حمله إسحاق بن راهويه على مثل هذا، فقال في رواية حرب في استدلاله على اعتبار التمييز للمستحاضة بحديث: ( إذا كان دم الحيض، فإنه أسود يعرف ) الحديث، قال: وكذلك روي عن ابن عباس، أنه قال لامرأة مستحاضة: أما ما دامت ترى الدم البحراني فلتدع الصلاة، فإذا جاوزت ذلك اغتسلت وصلت.
وكذلك وقع في كلام الإمام أحمد في رواية الشالنجي حمل كلام ابن عباس على مثل هذا.
وهو يرجع إلى أن المستحاضة تعمل بالتمييز، فتجلس زمن الدم الأسود، فإذا انقطع عنها ورأت حمرة أو صفرة أو كدرة، فإن ذلك طهرها، فتغتسل حينئذ وتصلي. والله أعلم " انتهى من "فتح الباري" (2 / 178 – 179).
وعلى ذلك؛ فإنها تنظر في اليوم التاسع إلى دمها إن كان يشبه دم حيضها المعتاد، فيكون حيضا، وإن كان لا يشبه دم حيضها المعتاد في لونه أو رائحته أو شكله وسماكته، فيكون دم استحاضة.
وروى الترمذي (128) عَنْ حَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ قَالَتْ: كُنْتُ أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً كَثِيرَةً شَدِيدَةً، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَسْتَفْتِيهِ وَأُخْبِرُهُ... فَقَالَ: ( إِنَّمَا هِيَ رَكْضَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَتَحَيَّضِي سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ فِي عِلْمِ اللَّهِ، ثُمَّ اغْتَسِلِي ).
قال الترمذي: " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ... وَسَأَلْتُ مُحَمَّدًا عَنْ هَذَا الحَدِيثِ، فَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ ... " انتهى.
قال ابن قدامة رحمه الله تعالى:
" قوله: ( ستا أو سبعا ) الظاهر أنه ردها إلى اجتهادها ورأيها، فيما يغلب على ظنها أنه أقرب إلى عادتها، أو عادة نسائها، أو ما يكون أشبه بكونه حيضا. ذكره القاضي في بعض المواضع، وذكر في موضع آخر أنه خيرها بين ست وسبع، لا على طريق الاجتهاد ... والأول إن شاء الله أصح … " انتهى من "المغني" (1 / 405).
فإذا لم تستطيع الاجتهاد والتمييز، ولم يتبين لها شيء، فعليها أن تجلس تسعة أيام وهي أكثر أيام عادتها، لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، ولا يحكم بالانتقال بمجرد الشك، وإنما باليقين أو بغالب الظن.
قال ابن رشد رحمه الله تعالى:
" قول الله عز وجل: ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى ) والأذى الدم الخارج من الرحم، فوجب أن يحمل على أنه حيض حتى يُعلم أنه ليس بحيض، وهذا ما لا أعلم فيه خلافا، وبالله التوفيق " انتهى من "البيان والتحصيل" (1 / 105).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" والأصل في كل ما يخرج من الرحم أنه حيض حتى يقوم دليل على أنه استحاضة؛ لأن ذلك هو الدم الأصلي الجبلي، وهو دم ترخيه الرحم. ودم الفساد دم عرق ينفجر، وذلك كالمرض؛ والأصل الصحة لا المرض... " انتهى من "مجموع الفتاوى" (19 / 238).
فإذا لم يكن للمرأة عادة ثابتة، ولا تمييز صالح بين دم الحيض ودم الاستحاضة، وترددت في اليوم التاسع – مثلا – ونحوه: هل هو حيض أم استحاضة؛ فإنها لا تستعجل بالخروج من حكم الحيض إلا بعد مرور أكثر ما اعتادته من مدة الحيض؛ لأن بهذا يحصل اليقين أو غلبة الظن بانتهاء زمن الحيض.
والله أعلم.
تعليق