الحمد لله.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" وذكر سعد بن إبراهيم، عن عامر بن سعد، عن أبيه قال: كان إبراهيم خليل الله صلى الله عليه وسلم يزور هاجَرَ في كلّ يوم من الشام على البُراق من شغفه بها وقلة صبره عنها " انتهى. "الداء والدواء" (1/530).
هذا الخبر رواه الخرائطي في "اعتلال القلوب" (2/357)، قال: حَدَّثَنَا الصَّاغَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَاقِدِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: " كَانَتْ سَارَةُ تَحْتَ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام خَلِيلِ اللَّهِ ، فَمَكَثَتْ مَعَهُ دَهْرًا لَا تُرْزَقُ مِنْهُ وَلَدًا، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ وَهَبَتْ لَهُ هَاجَرُ، أَمَةً لَهَا قِبْطِيَّةً، فَوَلَدَتْ لِإِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِسْمَاعِيلَ، فَغَارَتْ مِنْ ذَلِكَ سَارَّةُ وَوَجَدَتْ فِي نَفْسِهَا، وَعَتَبَتْ عَلَى هَاجَرَ، فَحَلَفَتْ أَنْ تَقْطَعَ مِنْهَا ثَلَاثَةَ أَشْرَافٍ، فَقَالَ لَهَا إِبْرَاهِيمُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ: "هَلْ لَكِ أَنْ تَبَرِّي يَمِينَكِ؟ قَالَتْ: كَيْفَ أَصْنَعُ؟ قَالَ: أَبْقِي أُذُنَيْهَا وَاخْفِضِيهَا. وَالْخَفْضُ هُوَ الْخِتَانُ، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ بِهَا، فَوَضَعْتُ هَاجَرُ فِي أُذُنَيْهَا قُرْطَيْنِ فَازْدَادَتْ بِهِمَا حُسْنًا، فَقَالَتْ سَارَةُ: أُرَانِي إِنَّمَا زِدْتُهَا جَمَالًا، فَلَمْ تُقَارِّهِ عَلَى كَوْنِهَا مَعَهُ، وَوَجَدَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَجْدًا شَدِيدًا، فَنَقَلَهَا إِلَى مَكَّةَ، فَكَانَ يَزُورُهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنَ الشَّامِ عَلَى الْبُرَاقِ مِنْ شَغَفِهِ بِهَا، وَقِلَّةِ صَبْرِهِ عَنْهَا ".
وهذا إسناد ضعيف جدا؛ لأن في إسناده الواقدي، وهو واهي الحديث.
قال النووي رحمه الله تعالى:
" الواقدي رحمه الله ضعيف عند أهل الحديث وغيرهم لا يحتج برواياته المتصلة " انتهى من "المجموع" (1/114).
وقال الذهبي رحمه الله تعالى:
" جمع فأوعى وخلط الغث بالسمين ، والخرز بالدر الثمين؛ فاطَّرحوه لذلك. ومع هذا فلا يستغنى عنه في المغازي ، وأيام الصحابة وأخبارهم...
وقد تقرر أن الواقدي ضعيف ، يُحتاج إليه في الغزوات ، والتاريخ ، ونورد آثاره من غير احتجاج...
لا عبرة بتوثيق من وثقه؛ إذ قد انعقد الإجماع اليوم على أنه ليس بحجة، وأن حديثه في عداد الواهي رحمه الله " انتهى من "سير اعلام النبلاء" (9/ 454 – 469).
وقد أشار الحافظ ابن حجر إلى أن هذا الخبر قد جاء بأسانيد أخرى، حيث قال رحمه الله تعالى:
" ففي حديث أبي جهم كان إبراهيم يزور هاجر كل شهر على البراق، يغدو غدوة فيأتي مكة، ثم يرجع فيقيل في منزله بالشام. وروى الفاكهي من حديث علي بإسناد حسن نحوه: وأن إبراهيم كان يزور إسماعيل وأمه على البراق " انتهى من "فتح الباري" (6 / 404).
وحديث أبي الجهم بن حذيفة، قد رواه الفاكهي في "أخبار مكة" (5 / 120 - 121)، لكنه أيضا من طريق الواقدي.
وأما خبر علي الذي حسّن إسناده، فلم نقف في "أخبار مكة" للفاكهي على خبر عن علي بهذا المعنى.
وروى الطبري في "التاريخ" (1/273)، قال: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: " كان إبراهيم فيما يقال إذا زارها- يعني هاجر- حمل على البراق يغدو من الشام، فيقيل بمكة، ويروح من مكة، فيبيت عند أهله بالشام " انتهى.
وهذا الخبر لا حجة فيه، فهو من كلام ابن إسحاق، ولا يُعلم عمن أخذه.
وورد أن ابراهيم كان يزور اسماعيل عليهما السلام على البراق، من حديث أبي هريرة موقوفا عليه.
كما في "مشيخة ابن طهمان" (ص61): عَنْ عَبَّادِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: ( كَانَ إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ يَزُورُ ابْنَهُ إِسْمَاعِيلَ عَلَى الْبُرَاقِ، وَهِيَ دَابَّةُ جِبْرِيلَ، تَضَعُ حَافِرَهَا حَيْثُ يَنْتَهِي طَرَفُهَا، وَهِيَ الدَّابَّةُ الَّتِي رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ ).
وقول الصحابي مما يتعلق بأمور الغيب، إنما يحتج به ويكون في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذا كان هذا الصحابي لا يأخذ عن أهل الكتاب من يهود ونصارى أخبارهم.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
" حاصل تحرير هذه المسألة: أن قول الصحابي الموقوف عليه له حالتان:
الأولى: أن يكون مما لا مجال للرأي فيه.
الثانية: أن يكون مما له فيه مجال.
فان كان مما لا مجال للرأي فيه: فهو في حكم المرفوع كما تقرر في علم الحديث، فيقدم على القياس، ويخص به النص، إن لم يعرف الصحابي بالأخذ من الإسرائيليات " انتهى من "مذكرة أصول الفقه" (ص 256).
وأبو هريرة رضي الله عنه ممن عرف عنه التحديث بأخبار أهل الكتاب التي سمعها من كعب الأحبار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في التحديث عن أهل الكتاب لكن من غير تصديق لهم ولا تكذيب إلا بدليل.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : ( كَانَ أَهْلُ الكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالعِبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا بِالعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الإِسْلاَمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الكِتَابِ وَلا تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا: ( آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا ) الآيَةَ ) رواه البخاري (4485).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" ... ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب التي أباحها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: ( بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ )، رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو؛ ولهذا كان عبد الله بن عمرو قد أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب فكان يحدث منهما بما فهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك، ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد، فإنها على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق فذاك صحيح.
والثاني: ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه.
والثالث: ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه وتجوز حكايته لما تقدم " انتهى من "مجموع الفتاوى" (13/366).
فالخلاصة:
أنه لم يثبت بإسناد صحيح مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أن إبراهيم عليه السلام كان يزور هاجر كل يوم أو شهر على البراق، وأقوى ما ورد في هذا خبر أبي هريرة، وفيه: أن إبراهيم كان يزور اسماعيل عليهما السلام على البراق، ويحتمل جدا أن يكون مما سمعه من أخبار أهل الكتاب.
والله أعلم.
تعليق