الحمد لله.
إذا ماطل الزوج في دفع المهر عند حلول أجله، فإن الحنابلة يفرقون بين أن تكون هذه المماطلة مع قدرة الزوج المالية وغناه، وبين أن تكون مماطلته بسبب الإعسار وعدم القدرة المالية.
ففي حال المماطلة مع غنى الزوج وقدرته:
فلا يقولون بالفسخ، وإنما للمرأة أن تجبره بدفع المهر إذا حل أجله بأي طريق مشروع، كرفع أمره إلى القاضي، ولها أن تمنعه حقه من الاستمتاع حتى يدفع ما عليه.
مع تفصيل في المذهب بين حصول المماطلة قبول الدخول وبعده.
قال المرداوي رحمه الله تعالى:
" قوله: ( وللمرأة منع نفسها حتى تقبض مهرها )؛ مراده: المهر الحال.
وهذا بلا نزاع بين الأصحاب. ونقله ابن المنذر اتفاقا…
لو كان المهر مؤجلا، لم تملك منع نفسها، لكن لو حل قبل الدخول، فهل لها منع نفسها، كقبل التسليم؟… فيه وجهان... أحدهما: ليس لها ذلك. وهو الصحيح…
فإن تبرعت بتسليم نفسها، ثم أرادت المنع -يعنى، بعد الدخول، أو الخلوة- فهل لها ذلك؟ على وجهين…
أحدهما: ليس لها ذلك. وهو المذهب، وعليه أكثر الأصحاب " انتهى من "الانصاف" (21/ 302 - 305).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" إذا سلمت نفسها تبرعا في الحال؛ ثقة بالزوج على أنه سيسلم المهر، ثم ماطل به، فالمذهب ليس لها أن تمنع نفسها؛ لأنها رضيت بالتسليم بدون شرط، فلا يمكن أن ترجع، ولكن تطالبه، وتحبسه على ذلك.
والصحيح: أن لها أن تمنع نفسها؛ لأن الرجل إذا ماطل، لا نمكنه من استيفاء الحق كاملا؛ لأنه لا يمكن أن نجعل جزاء الإحسان إساءة، ولا يمكن أن نخالف بين الزوجين، فنعامل هذا بالعدل، وهذا بالظلم، فنقول: كما امتنع مما يجب عليه، فلها أن تمتنع " انتهى من "الشرح الممتع" (12/316).
وأما في حال المماطلة في دفع المهر إذا حل أجله بسبب الإعسار وعدم القدرة المالية.
ففي المذهب أوجه : منها : أنّ لها الفسخ في هذه الحال خاصة إذا كانت لا تعلم بإعساره، وكانت تظن أنه سيؤدي ما عليه في وقته.
قال ابن قدامة رحمه الله تعالى:
" وإن أعسر الزوج بالصداق، ففيه ثلاثة أوجه؛ أصحها: ليس لها الفسخ...
والثانى: لها الفسخ. وهو اختيار أبى بكر؛ لأنه أعسر بالعوض، فكان لها الرجوع في المعوض...
والثالث: إن أعسر قبل الدخول، فلها الفسخ، كما لو أفلس المشترى والمبيع بحاله، وإن كان بعد الدخول، لم تملك الفسخ؛ لأن المعقود عليه قد استُوفي...
ولنا: أنه دين، فلم يفسخ النكاح للإعسار به، كالنفقة الماضية، ولأن تأخيره ليس فيه ضرر مجحف، فأشبه نفقة الخادم والنفقة الماضية، ولأنه لا نص فيه، ولا يصح قياسه على الثمن في المبيع؛ لأن الثمن كل مقصود البائع، والعادة تعجيله، والصداق فضلة ونحلة، ليس هو المقصود في النكاح، ولذلك لا يفسد النكاح بفساده، ولا بترك ذكره، والعادة تأخيره…
وإذا قلنا: لها الفسخ للإعسار به، فتزوجته عالمة بعسرته: فلا خيار لها، وجها واحدا؛ لأنها رضيت به كذلك.
وكذلك إن علمت عسرته بعد العقد، فرضيت بالمقام، سقط حقها من الفسخ؛ لأنها رضيت بإسقاط حقها بعد وجوبه، فسقط " انتهى من "المغني" (11/368).
والقول الثاني، وهو أن لها الفسخ، قبل الدخول أو بعده، هو المعتمد في مذهب الحنابلة. لكن بشرط أن يكون ذلك بحكم حاكم – القاضي - فلا تستبد به المرأة، ولا وليها.
قال الشيخ منصور البهوتي، رحمه الله: " (وإن أعسر) الزوج (بالمهر الحالِّ قبل الدخول أو بعده، فَلِحُرَّةٍ مكلَّفة الفسخ) لأنه تعذَّر عليها الوصول إلى العوض، أشبه ما لو أفلس المشتري (فلو رضيت بالمقام معه مع عسرته) امتنع الفسخ (أو تزوجته عالمة بعُسرته؛ امتنع الفسخ) لرضاها به.
(ولها) أي: للتي رضيت بالمقام مع العسرة، أو تزوجته عالمة بها (مَنْعُ نفسها) حتى تقبض مهرها الحالّ؛ لأنه لم يثبت له عليها حقّ الحبس (ويأتي في النفقات.
والخِيَرة لسيّد الأَمَة) إذا أعسر زوجها؛ لأن الحقّ لسيّدها؛ لأنه مالك نفعها، والصداق عوض منفعتها، فهو ملكه دونها.
و(لا) خِيَرة (لوليّ) زوجة (صغيرة ومجنونة) لأن الحقّ لها في الصداق دون وليّها، وقد ترضى بتأخيره.
(ولا يصح الفسخ في ذلك كلّه إلا بحكم جاكم) لأنه فسخ مختلَف فيه، كالفسخ للعُنَّة والإعسار بالنفقة، ولأنه يُفضي إلى أن يكون للمرأة زوجان، كلٌّ يعتقد حِلَّها له، وتحريمها على الآخر. والقياس على المعتقة غير صحيح؛ لأنه متفق عليه، وهذا مختلَفٌ فيه".
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" قوله: ( فإن أعسر بالمهر الحال فلها الفسخ، ولو بعد الدخول، ولا يفسخه إلا حاكم ).
أي: إذا أعسر بالمهر الحال، سواء كان حالا من الأصل، أو حل بعد التأجيل فلها الفسخ؛ لأنه لم يسلم لها العوض.
مثال ذلك: رجل تزوج بامرأة على عشرة آلاف حالة، ودخل عليها، فلما طالبته تبيّن أنه معسر لا شيء عنده.
نقول: لها أن تفسخ عقد النكاح، وإذا فسخت بقي المهر في ذمته؛ لأنه استقر بالدخول.
وكذلك على القول الراجح: إن كان لم يستقر، فلها أن تطالبه بما يجب لها قبل الدخول؛ لأن الفراق هنا بسببه، وقد تقدم أن الفراق إذا كان لعيبه، فالفرقة من قبله هو على الصحيح، والمذهب أنها من قبلها.
فإن قال قائل: لماذا لا تقولون: تمنع نفسها حتى يسلمها المهر؟
فالجواب: لأننا لا ندري متى يحصل الإيسار...
وقوله: ( فإن أعسر بالمهر ) لو رضيت بذلك، وقالت: ما دام أنك معسر، فمتى أيسرت أعطني، ثم رجعت وطلبت أن يعطيها أو تفسخ، فإنه ليس لها ذلك؛ لأنها أسقطت حقها برضاها، ولو تزوجته عالمة بإعساره، والمهر لم يقبض فليس لها الفسخ؛ لأنها راضية بذلك.
قوله: ( ولا يفسخه ) أي: النكاح.
قوله: ( إلا حاكم ) لأنه فسخ مختلف فيه، وحكم الحاكم يرفع الخلاف، ويقطع النزاع… " انتهى من "الشرح الممتع" (12/317).
الخلاصة:
مماطلة الزوج في دفع المهر المؤجل إذا حل وقت دفعه، ففي المذهب أنه ينظر فيه إلى حال الزوج المالية:
فإن كان مقتدرا، فالذي للزوجة هو أن تطالبه بحقها بكل سبيل مشروع ومن ذلك منع زوجها من الاستمتاع بها، حتى يؤدي ما عليه، ولهم في ذلك تفصيل إن كان قبل الدخول أو بعده.
وأما إن كانت المماطلة بسبب الاعسار ففي المذهب أن لها الفسخ، لكن مردّ ذلك إلى حكم القاضي.
والله أعلم.
تعليق