الحمد لله.
أولا :
النفقة على الوالدين إنما تكون على ميسوري الحال من أبنائهما، وأما الفقير من الأولاد فلا يكلف ما لا يستطيعه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلِأَهْلِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ فَلِذِي قَرَابَتِكَ) رواه مسلم (997).
قال الشيخ ابن جبرين رحمه الله : " وإذا افتقر الوالدان، وعند البنت مال زائد عن حاجتها: فيلزمها أن تنفق على والديها قدر حاجتهما، دون أن تنقص من حاجاتها " انتهى.
وإذا كان بعض الأولاد أكثر غنى ومالا، فيجب عليه من النفقة أكثر مما يجب على غيره ممن لم يبلغ غناه .
جاء في " الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني " (2 / 69): " إذا كان الولد متعددا ، ووجب عليه نفقة أبويه ، أو أحدهما : فإنها توزع على الأولاد حسب اليسار ، على أرجح الأقوال " انتهى.
وعلى جميع الإخوة أن يتحملوا مسئوليتهم تجاه والديهم ، وليعلموا أن هذا باب عظيم من أبواب الجنة.
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم: (111892)، ورقم: (144721).
ثانياً :
إذا لم يكن لك إخوة فالنفقة واجبة عليك ، وفي هذه الحالة تركك للعمل سيكون معناه تضييع الأبوين ، وهذا لا يجوز.
ولا شك أيضا أنك تحتاجين إلى الزواج، لتعفي نفسك، ويجتمع شملك في بيت الزوجية. وإذا كانت هذه حاجة معروفة في بني آدم، من أصل خلقتهم؛ فإن الحاجة إليها في زماننا هذا، حيث كثرة الفتن والمغريات: أشد، وأقوى من كل زمان قبل ذلك!!
وحينئذ؛ فأنت في حاجة ماسة على التفاهم مع المتقدم لك ، لتبيني له أن أمر العمل بالنسبة إليك ليس ترفا، ولا حبا في العمل لذاته ؛ إنما هو ضرورة اجتماعية ، حتمتها عليك ظروفك، وأنك لا تستطيعين ترك العمل بسبب والديك.
فإذا لم تجدي من يتفهم ظروفك، وتكرر ذلك، وغلب على ظنك أن الرجال المرضيين في بيئتك لن يقبلوا الزواج منك، مع الاحتفاظ بعملك؛ فلا بد أن تحاولي التفكير في حلول أخرى لهذه الإشكالية.
فمن الحلول : أن يتحمل من يرغب في الزواج منك نفقة والديك ، إن كان موسرا ، سمح النفس، لا يكرثه أمر النفقة على والديك، ولا يغض ذلك من منزلتك عنده !!
ومنها : أن تقللي ساعات عملك – إن أمكن- ليكون راتبك بمقدار ما يحتاجه والداك فقط ، وأما نفقتك أنت فعلى زوجك.
ومنها : أن يتدخل أقاربك من جهة أبيك وأمك ، ويتحملوا جزءا من نفقة والديك ، أو يتحملوها كلها ، فإن النفقة إذا وزعت على عائلتين (عائلة الأب والأم) كانت شيئا يسيرا على كل واحد ، لا يتأثر به أحد في الغالب ، وهذا هو الواجب عليهم ، ليس إحسانا ولا فضلا ، فإن صلة الرحم توجب عليهم ذلك .
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه "زاد المعاد" (5/542- 551) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه ألزم بني عم، أن ينفقوا على ابن عمهم . وهكذا قضى زيد بن ثابت رضي الله عنه.
واستدل ابن القيم رحمه الله على وجوب النفقة على ذوي الرحم والأقارب بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة ، تنظر في الموضع المشار إليه آنفا من كتاب "زاد المعاد".
منها قوله : "وَرَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلِأَهْلِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ فَلِذِي قَرَابَتِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ فَهَكَذَا وَهَكَذَا).
وَهَذَا كُلُّهُ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى [النساء: 36] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ [الإسراء: 26]؛ فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ حَقَّ ذِي الْقُرْبَى يَلِي حَقَّ الْوَالِدَيْنِ، كَمَا جَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَوَاءً بِسَوَاءِ، وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ لِذِي الْقُرْبَى حَقًّا عَلَى قَرَابَتِهِ، وَأَمَرَ بإيتائِه إِيَّاهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حَقَّ النَّفَقَةِ، فَلَا نَدْرِي أَيَّ حَقٍّ هُوَ.
وَأَمَرَ تَعَالَى بِالْإِحْسَانِ إِلَى ذِي الْقُرْبَى، وَمِنْ أَعْظَمِ الْإِسَاءَةِ أَنْ يَرَاهُ يَمُوتُ جُوعًا وَعُرْيًا، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى سَدِّ خُلَّتِهِ وَسَتْرِ عَوْرَتِهِ، وَلَا يُطْعِمُهُ لُقْمَةً وَلَا يَسْتُرُ لَهُ عَوْرَةً، إِلَّا بِأَنْ يُقْرِضَهُ ذَلِكَ فِي ذِمَّتِهِ، وَهَذَا الْحُكْمُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُطَابِقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى" انتهى.
فلا يجوز لهم أن يتركوك تعملين من أجل النفقة على والديك وهم قادرون على النفقة عليهما ، والأمر يكون أشد تحريما عليهم إذا كان عملك يمنعك من الزواج .
وهذا يحتاج منك أن تتحدثي إلى من يمكنك التحدث معه من العائلة كخالاتك وعماتك ، وهن يتحدثن مع سائر العائلة .
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم: (290232)، ورقم: (289549).
وإننا لنأسف لما آل إليه أمر المسلمين ، من تفكك الأسر والعائلات ، حتى يتركوا امرأة تخرج للعمل من أجل النفقة على والديها ، والواجب عليهم هم ، أن يغنوها عن العمل ، فتجلس في بيتها معززة مكرمة ، وهم ينفقون عليها وعلى والديها .
نسأل الله تعالى أن ييسر لك أمرك ، ويوسع عليك رزقه ، ويرزقك زوجا صالحا ، وذرية صالحة.
والله أعلم.
تعليق