الحمد لله.
أولا:
الحج لا يجب إلا على المستطيع؛ لقول الله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) آل عمران: من 97
وقد فسر الفقهاء الاستطاعة المالية بأنها ملك الزاد والراحلة، أي النفقة التي توصله إلى بيت الله الحرام، ذهابا وإيابا، إذا كانت هذه النفقة فاضلة عن حاجاته الأصلية، ونفقاته الشرعية، وقضاء ديونه.
قال ابن قدامة، رحمه الله: " وأن يكون فاضلا عن قضاء دينه؛ لأن قضاء الدين من حوائجه الأصلية، ويتعلق به حقوق الآدميين، فهو آكد، ولذلك منع الزكاة، مع تعلق حقوق الفقراء بها، وحاجتهم إليها، فالحج الذى هو خالص حق الله تعالى أولى، وسواء كان الدين لآدمى معين، أو من حقوق الله تعالى، كزكاة فى ذمته، أو كفارات ونحوها " انتهى، من "المغني" (5/12).
فمن كان عليه دين، وماله لا يتسع للحج وقضاء الدين، فإنه يبدأ بقضاء الدين، ولا يجب عليه الحج.
والزكاة واجبة على الفور، فيحرم تأخيرها إلا لعذر.
وديون الآدميين إذا حل أجلها، وطولب بها: وجب أداؤها، وحرم التأخير والمماطلة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ) رواه البخاري (2400) ومسلم (1564).
والمطل: هو تأخير أداء الحق الواجب من غير عذر.
قال في كشاف القناع (3/ 310): " (ويجب أداء ديون الآدميين على الفور عند المطالبة ") لحديث مطل الغني ظلم.
(ولا يجب) أداء ديون الآدميين (بدونها)؛ أي: بدون المطالبة ، (على الفور)؛ بل يجب موسعا" انتهى.
وعليه؛ فقد أخطأت بتأخير الزكاة، وتأخير سداد الديون إن كنت قد طولبت بها، وكان عليك تقديم ذلك على الحج.
ثانيا:
لا يجوز الانتفاع بالفائدة الربوية، ويجب سحب المال من الحساب الربوي، والتخلص من الفائدة بإعطائها الفقراء والمساكين، أو صرفها في مصالح المسلمين العامة، ولا يجوز للمرابي الانتفاع بالفائدة لنفسه، إلا ما أخذه قبل العلم بالتحريم، بأن كان جاهلا، أو مقلدا لمن أجاز ذلك؛ لقوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ) البقرة/ آية 275.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " وأما الذي لا ريب فيه عندنا فهو: ما قبضه بتأويل أو جهل، فهنا له ما سلف، بلا ريب، كما دل عليه الكتاب والسنة والاعتبار" انتهى من "تفسير آيات أشكلت على كثير من العلماء" (2/ 592).
فإذا كنتِ جاهلة بتحريم الإيداع، أو اتبعت قول من يفتي بجوازها، فلا حرج عليك في الانتفاع بالفوائد، ويلزمك الخروج من الحساب الربوي.
وأما ما أخذتِ مع العلم بالتحريم، فيجب التخلص منه ولا يجوز الحج به.
فإن حج الإنسان بالمال الحرام، فإنه يُخشى ألا يُتقبل الله تعالى حجه؛ لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلا طَيِّبًا) رواه مسلم (1015).
وقد ذهب جماعة من الفقهاء إلى أن الحج يجزئه؛ أي: يسقط به الفرض، لكنه لا يقبل، وذهب جماعة إلى أنه لا يجزئه.
قال النووي في المجموع (7/62) : "إذا حج بمال حرام: أثِم، وصح حجُّه، وأجزأه، وبه قال أكثر الفقهاء" انتهى مختصرا.
وفي المعيار للونشريسي (1/ 439): "وسُئل بعضهم عمن حج بمال حرام، أترى ذلك مجزياً عنه ويغرم المال لأصحابه؟
فأجاب: أما في مذهبنا [أي المالكية] فلا يجزئه.
وأما في قول الشافعي: فذلك جائز، ويرد المال، ويطيب له حجه انتهى.
فإذا قلنا بالإجزاء: فمذهب جماعة من المالكية والشافعية عدم القبول منهم القرافي والقرطبي من أصحابنا، والغزالي والنووي من الشافعية.
قال برهان الدين: ورأيت في بعض الكتب عن مالك رحمه الله عدم الإجزاء، وأنه وقَف في المسجد الحرام في الحج، ونادى: يا أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني؛ فأنا مالك بن أنس؛ من حج بمال حرام فليس له حج، أو كلام هذا معناه" انتهى.
وأما من حيث صحة الحج، فإن الحج إذا كمُلت أركانه: فهو حج صحيح، ولو أثم صاحبه.
وينظر: جواب السؤال رقم (204986)
ثالثا:
حيث إنك قدمت على الحج، ودفعت المال، والرجوع عن ذلك يترتب عليه تفويت فرصة قد لا تأتي مرة أخرى، مع خسارة جزء من المال، فإننا نرى أن تمضي إلى الحج، إذا سامحك أصحاب الديون، لتخرجي من إثم المماطلة، ثم تجتهدين في إخراج الزكاة، وإخراج مثل الفوائد الربوية التي انتفعت بها مع علمك بتحريمها.
فإن أبى أصحاب الديون المسامحة، ولم تجدي من يقرضك قرضا حسنا لتؤدي هذه الديون، فالأسلم لك أن تستردي رسوم الحج، وتقضي ديونك وزكاتك، وتتخلصي من المال الحرام، وذلك أن المماطلة في أداء الحقوق: من ذنوب العباد التي لا يمحوها الحج، ولو مات الإنسان قبل أداء ما عليه من الحقوق؛ مات آثما، مرتهنا بدينه، فأي خير لك في الحج إذا حججت وأنت ظالمة لغيرك، مصرة على الإثم.
أما الحج، فمن مات ولم يحج لعدم استطاعته: فلا إثم عليه.
والله أعلم.
تعليق