الحمد لله.
أولا:
هذا الحديث رواه ابن حبان "الاحسان" (15 / 99)، والحاكم في "المستدرك" (4 / 579): عن ابْن وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الزَّبَادِيَّ، حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ الأصبَحي، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، يَظْهَرُ النِّفَاقُ، وَتُرْفَعُ الْأَمَانَةُ، وَتُقْبَضُ الرَّحْمَةُ، وَيُتَّهَمُ الْأَمِينُ، وَيُؤْتَمَنُ غَيْرُ الْأَمِينِ، أَنَاخَ بِكُمُ الشُّرْف الجُونُ، قَالُوا: وَمَا الشُّرْفُ الْجُونُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ .
وقال الحاكم رحمه الله تعالى: " هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه " انتهى. ووافقه الذهبي.
لكن هذا الإسناد مداره على خَالِد بْن عَبْدِ اللَّهِ الزَّبَادِيّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ الأصبحي.
وخالد بن عبد الله لم يرد فيه توثيق معتبر، وقد ذكره البخاري في "التاريخ الكبير" (3/ 160)، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (3/340)، ولم يذكرا فيه توثيقا ولا جرحا، وغاية ما ورد فيه ذكر ابن حبان له في "الثقات" (6/259).
وأبو عثمان الأصبحي مثله، لكنه من كبار التابعين.
فهذا الإسناد لا يصح لجهالة حال خالد بن عبد الله.
وقد حسّنه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة"، حيث قال: " وخالد بن عبد الله الزيادي- وقيل: الزبادي- لم يذكروا عنه راويا غير اثنين أحدهما: جعفر بن ربيعة، والآخر: عمرو بن الحارث، وهو راويه هنا، وذكره ابن حبان في "الثقات "، فمثله يحتمل حديثه التحسين، أما الصحة فلا.
ومثله- أو خير منه- شيخه أبو عثمان وهو الأصبحي، كما وقع مصرّحا به في إسناد الحاكم، وكذلك في ترجمته من "التهذيب "، وسماه عبيد بن عمير، وذكر أنه روى عنه جمع غير الزيادي، ولم يحك فيه جرحا ولا توثيقا...
ومهما يكن حال هذا وحال الذي قبله؛ فإني أرى أن حديثه هذا لا ينزل عن مرتبة الحسن؛ لما له من الشواهد المبثوثة في مختلف الأحاديث. والله أعلم" انتهى. "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (7/591).
وأما في "السلسلة الضعيفة" فقد حكم بضعفه، حيث قال: " ( لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، يَظْهَرُ النِّفَاقُ … )، ضعيف بتمامه.
ورجاله ثقات غير الزيادي؛ ويقال: الزبادي ... أورده ابن أبي حاتم برواية ثقتين عنه، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا، ولعله في "ثقات ابن حبان"، فليراجع.
وبالجملة؛ فهو مجهول الحال عندي. والله أعلم " انتهى. "سلسلة الأحاديث الضعيفة" (9 / 344).
وخالد هذا قد تابعه سلامان بن عامر، وحاله كحال خالد، لم يرد فيه توثيق ولا جرح، وقد ذكره البخاري في "التاريخ الكبير" (4 / 213) وابن ابي حاتم في "الجرح والتعديل" (4 / 322).
فرواه إسحاق بن راهويه في "المسند" (1 / 347)، وابن أبي الدنيا في "العقوبات" (ص46): عن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن زِيَادِ بْنِ أَنْعُمَ، عَنْ سَلَامَانَ بْنِ عَامِرٍ الشَّعْبَانِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ الْأَصْبَحِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( إِذَا اتُّهِمَ الْأَمِينُ، وَائْتُمِنَ غَيْرُ الْأَمِينِ، وَكُذِّبَ الصَّادِقُ، وَصُدِّقَ الْكَاذِبُ … ).
ورواه نعيم بن حماد في "الفتن" (1 / 28)، وابن عبد الحكم في "فتوح مصر والمغرب" (ص 281): عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَلَامَانُ بْنُ عَامِرٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ الْأَصْبَحِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
ولفظه عند نعيم بن حماد: ( إِذَا تَقَارَبَ الزَّمَانُ أَنَاخَ بِكُمُ الشُّرْفُ الْجُونُ، فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ ).
وعند ابن عبد الحكم جاء بتمامه: ( لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، قالوا وما ذاك يا رسول الله؟ قال: يتقارب الزمان، ويَظْهَرُ النِّفَاقُ، وَتُقْبَضُ الرَّحْمَةُ، وَتُرْفَعُ الْأَمَانَةُ، وَيُتَّهَمُ الْأَمِينُ، ويؤمّن المتّهم، أَنَاخَ بِكُمُ الشُّرْف الجُونُ.
قال: يقول أبو هريرة: وما سمعتها من أحد أول من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَمَا الشُّرْفُ الْجُونُ؟ قَالَ: الفتن قطع كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ ).
ومع جهالة حال سلامان بن عامر هذا، فالراويان عنه ابن لهيعة والكلام في ضعف ضبطه مشهور، وعبد الرحمن بن زياد ضعيف الحديث.
قال الذهبي رحمه الله تعالى:
" عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي: مشهور جليل، ضعفه ابن معين والنسائي، وقال الدارقطني: ليس بالقوي. ووهاه أحمد " انتهى. "المغني في الضعفاء" (2 / 380).
وعبد الرحمن بن زياد هو شيخ لابن لهيعة، فيخشى أن يكون ابن لهيعة أخذه عنه.
ثم قد خالفهما عمرو بن الحارث فجعله من حديث خالد بن عبد الله.
وعمرو بن الحارث ثقة، لخص حاله الحافظ ابن حجر بقوله رحمه الله تعالى:
" عمرو بن الحارث بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، المصريّ ...: ثقة فقيه حافظ " انتهى. " تقريب التهذيب" (ص 419).
فطريق سلامان لا تصلح لتقوية طريق خالد: لضعفها، ولاحتمال أن يكون مخرج الحديث واحدا.
ثانيا:
رغم ضعف إسناد هذا الخبر فإنه ليس فيه كذاب أو متهم بالكذب، ومثله يستأنس به جمع من أهل العلم في باب الترغيب والترهيب كحال هذا الحديث.
ثم إن معناه ليس منكرا؛ فقد وردت وصحت الأخبار التي تنص على انتشار الفتن والخيانة، ورفع الأمانة، وكثرة الجهل، وقلة العلم، والتنافس على الدنيا= في آخر الزمان.
وزمن تنتشر فيه هذه الظواهر، يعدّ بيئة ملائمة لظهور النفاق، الذي دافعه التشبث بمتاع هذه الدنيا، ومن صفاته الخيانة والكذب وغياب الأمانة.
وإذا كان النفاق قد وجد في عصر النبوة، مع قوة نور العلم والهدى، وشدة طهارة المجتمع النبوي، فهو في الأزمان التي تكثر فيها الفتن أولى بالوجود.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" وإذا كانوا موجودين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عزة الإسلام مع ظهور أعلام النبوة ونور الرسالة: فهم مع بعدهم عنهما أشد وجودا، لا سيما وسبب النفاق هو سبب الكفر، وهو المعارضة لما جاءت به الرسل " انتهى. "مجموع الفتاوى" (28 / 202).
ثالثا:
ما يقوله أهل العلم من أن النفاق إنما كان في المدينة، لا يعني هذا أنه لا يكون بعد ذلك، وإنما القصد أنه لم يكن في الفترة المكية؛ لأن المسلمين فيها كانوا مستضعفين، فمن كان في قلبه كفر: لم يستره، أما في الفترة المدنية وبعد أن صار للمسلمين دولة وقوة، أصبح بعض الكفار في المدينة يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، لكي يعصموا أنفسهم ولينالوا بعض حظوظ الدنيا، وليمكروا بالمسلمين.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" وإنما نزلت صفات المنافقين في السور المدنية؛ لأن مكة لم يكن فيها نفاق؛ بل كان خلافه؛ من الناس من كان يظهر الكفر مستكرَها، وهو في الباطن مؤمن…
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وأسلم من أسلم من الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج، وقلَّ من أسلم من اليهود إلا عبد الله بن سلام رضي الله عنه: لم يكن إذ ذاك نفاق أيضًا؛ لأنَّهُ لم يكن للمسلمين بعد شوكة تخاف؛ بل قد كان عليه الصلاة والسلام وادع اليهود وقبائل كثيرةً من أحياء العرب حوالي المدينة؛ فلما كانت وقعة بدر العظمى، وأظهر الله كلمته، وأعلى الإسلام وأهله، قال عبد الله بن أُبي بن سلول - وكان رأسًا في المدينة، وهو من الخزرج، وكان سيد الطائفتين في الجاهلية، وكانوا قد عزموا أن يملكوه عليهم، فجاءهم الخير وأسلموا واشتغلوا عنه؛ فبقي في نفسه من الإسلام وأهله. فلما كانت وقعة بدر قال: هذا أمر قد توجه؛ فأظهر الدخول في الإسلام، ودخل معه طوائف ممن هو على طريقته ونحلته، وآخرون من أهل الكتاب؛ فمن ثم وجد النفاق في أهل المدينة ومن حولها من الأعراب.
فأما المهاجرون: فلم يكن فيهم أحد نافق؛ لأنه لم يكن أحد يهاجر مكرها، بل يهاجر فيترك ماله وولده وأرضه، رغبة فيما عند الله في الدار الآخرة " انتهى. "تفسير ابن كثير" (1 / 273 - 274).
رابعا:
بعد عصر النبوة: لم ينقطع النفاق، فكلما كان للمسلمين دولة وقوة، تَظَاهرَ بعض المخالفين من المخادعين بإعلان الإسلام وإبطانهم خلافه، إما مكرا، وإما طمعا في متاع الدنيا الذي بيد المسلمين، فهذه صفات في نفوس طوائف من الناس لا ينقطع وجودها، ويشير إلى هذا كثرة الآيات التي اعتنت ببيان صفاتهم والتحذير منهم، وهذا إشارة إلى أن المسلمين ممتحنون بهم على مر الأزمان.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" ولقد هتك الله أستارهم، وكشف أسرارهم، وضرب لعباده أمثالهم. وعلم أنه كلما انقرض منهم طوائف خلفهم أمثالهم، فذكر أوصافهم لأوليائه ليكونوا منها على حذر، وبينها لهم " انتهى. "مدارج السالكين" (1 / 547).
ومن ذلك حركة الزندقة التي ظهرت في التاريخ الإسلامي بعد عصر الفتوحات، وخاصة في العصر العباسي، فقد نص عدد من أهل العلم على أن من أظهر الإيمان من هؤلاء الزنادقة فحكمه حكم المنافقين.
قال ابن عطية رحمه الله تعالى:
" قال مالك رحمه الله: النفاق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ هو الزندقة فينا اليوم " انتهى. "المحرر الوجيز" (1 / 95).
وقال ابن قدامة رحمه الله تعالى:
" والزّنديق كالمرتدّ فيما ذكرنا، والزنديق هو الذي يظهر الإسلام ويستسرّ بالكفر، وهو المنافق، كان يسمّى في عصر النّبيّ صلى الله عليه وسلم منافقا، ويسمّى اليوم زنديقا " انتهى. "المغني" (9 / 159).
خامسا:
لا يعترض على هذا بما رواه البخاري (7114): عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: " إِنَّمَا كَانَ النِّفَاقُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَّا الْيَوْمَ: فَإِنَّمَا هُوَ الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ".
فهو لا يقصد بهذا نفي وجود عين النفاق، ويدل على هذا ما رواه البخاري قبل هذا الخبر في الحديث رقم (7113) عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: " إِنَّ الْمُنَافِقِينَ الْيَوْمَ شَرٌّ مِنْهُمْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كَانُوا يَوْمَئِذٍ يُسِرُّونَ، وَالْيَوْمَ يَجْهَرُونَ".
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" قوله: ( فَأَمَّا الْيَوْمَ، فَإِنَّمَا هُوَ الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ) ...
قال ابن التّين: كان المنافقون على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم آمنوا بألسنتهم، ولم تؤمن قلوبهم، وأمّا من جاء بعدهم، فإنّه ولد في الإسلام، وعلى فطرته؛ فمن كفر منهم فهو مرتدّ، ولذلك اختلفت أحكام المنافقين والمرتدّين انتهى.
والّذي يظهر: أنّ حذيفة لم يرد نفي الوقوع، وإنّما أراد نفي اتّفاق الحكم؛ لأنّ النّفاق إظهار الإِيمان وإخفاء الكفر، ووجود ذلك ممكن في كلّ عصر، وإنّما اختلف الحكم، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتألّفهم، ويقبل ما أظهروه من الإسلام، ولو ظهر منهم احتمال خلافه. وأمّا بعده فمن أظهر شيئا، فإنّه يؤاخذ به، ولا يترك لمصلحة التّألّف؛ لعدم الاحتياج إلى ذلك " انتهى. "فتح الباري" (13 / 74).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" فإن كثيرا من المتأخرين ما بقي في المظهرين للإسلام عندهم إلا عدل أو فاسق، وأعرضوا عن حكم المنافقين، والمنافقون ما زالوا ولا يزالون إلى يوم القيامة، والنفاق شعب كثيرة، وقد كان الصحابة يخافون النفاق على أنفسهم " انتهى. "مجموع الفتاوى" (7 / 212).
والله أعلم.
تعليق