الحمد لله.
أولًا:
لا حرج أن يسأل الإنسان ربه رؤية نبيه صلى الله عليه وسلم مناما؛ شوقا لرؤيته صلى الله عليه وسلم، فذلك من النعيم الذي تقر به عين المؤمن.
ورؤيته صلى الله عليه وسلم في المنام جائزة، وواقعة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي). رواه البخاري (6994)، رواه مسلم (2266) واللفظ لمسلم.
زاد البخاري: قال ابن سيرين: إذا رآه في صورته.
وفي رواية عند أحمد (3400): (فإن الشيطان لا يستطيع أن يتشبه بي).
وينظر: جواب السؤال رقم: (14052)، ورقم: (23367).
والأصل جواز سؤال الله تعالى ما هو جائز، فليس في هذا الدعاء اعتداء.
ثانيا:
أما طلب الرؤيا للسؤال عن أشياء، فهذا ليس مسلكًا صحيحًا؛ لأن هذه الأشياء إن كانت من أمر الدين؛ فالدين لا يؤخذ من المنامات، والسؤال عن شيء منه يكون لأهل العلم، كما قال الله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) النحل/43.
وإن كانت من أمر الدنيا، وما يتصل بالإنسان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب؛ وقد روى البخاري (4625)، ومسلم (2860) عن ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: " خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا، ثُمَّ قَالَ: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ إِلَى آخِرِ الآيَةِ، ثُمَّ قَالَ: (أَلاَ وَإِنَّ أَوَّلَ الخَلاَئِقِ يُكْسَى يَوْمَ القِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ، أَلاَ وَإِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُصَيْحَابِي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ العَبْدُ الصَّالِحُ: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، فَيُقَالُ: إِنَّ هَؤُلاَءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ).
وهذا المسلك فيه خطر على الإنسان أن يضل، فقد يأتيه الشيطان في صورة غير صورة النبي صلى الله عليه وسلم، فيلبّس عليه، ويجيبه أجوبة باطلة ليضله، كما حصل هذا مع كثير من ضلال الصوفية الذين ينشرون البدع والضلالات، ويزعمون أنهم تلقوها عن النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، وقد يكونوا صادقين في كونهم رأوا، لكنهم لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم، بل لُبّس عليهم.
ونسوق هنا طرفًا من كلام أهل العلم في أن المنامات لا تؤخذ منها الأحكام:
1-قال أبو الوليد ابن رشد رحمه الله: "وأما الحكم الذي شهد عنده عدلان مشهوران بالعدالة، فلا يحل له أن يترك الحكم بما شهدا به عنده، لما رأه في منامه، من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: لا تحكم بهذه الشهادة، فإنها باطل؛ لأن ذلك إبطال للأحكام الشرعية بالرؤيا، وذلك باطل، لا يصح أن يُعتقد، ولا يصح أن يقال؛ إذ لا يعلم المغيَّب من ناحيتها إلا الانبياء عليهم السلام، الذين هي لهم وحي. وأما من سواهم؛ فإنما رؤاهم جزء من ستة وأربعين من النبوة "انتهى من "مسائل ابن رشد" (1/ 533).
2-وقال الشاطبي رحمه الله في "الاعتصام" (1/ 331): "وأضعف هؤلاء احتجاجا قوم استندوا في أخذ الأعمال إلى المنامات، وأقبلوا وأعرضوا بسببها؛ فيقولون: رأينا فلانًا -الرجل الصالح- فقال لنا: اتركوا كذا، واعملوا كذا.
ويتفق هذا كثيرًا لـلمترسمين برسم التصوف، وربما قال بعضهم: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال لي كذا، وأمرني بكذا، فيعمل بها، ويترك بها؛ معرضًا عن الحدود الموضوعة في الشريعة.
وهو خطأ؛ لأن الرؤيا من غير الأنبياء لا يحكم بها شرعًا على حال؛ إلا أن تُعرض على ما في أيدينا من الأحكام الشرعية، فإن سوغتها، عُمل بمقتضاها، وإلا؛ وجب تركها والإعراض عنها، وإنما فائدتها البشارة أو النذارة خاصة، وأما استفادة الأحكام؛ فلا" انتهى.
3-وقال النووي رحمه الله: "قوله (إن حمزة الزيات رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فعرض عليه ما سمعه من أبان، فما عرف منه إلا شيئا يسيرا)؟!
قال القاضي عياض رحمه الله: هذا ومثله: استئناسٌ، واستظهارٌ على ما تقرر من ضعف أبان، لا أنه يُقطع بأمر المنام، ولا أنه تبطل بسببه سنة ثبتت، ولا تثبت به سنة لم تثبت. وهذا بإجماع العلماء. هذا كلام القاضي.
وكذا قاله غيره من أصحابنا وغيرهم، فنقلوا الاتفاق على أنه لا يُغيَّر بسبب ما يراه النائم ما تقرر في الشرع.
وليس هذا الذي ذكرناه مخالفا لقوله صلى الله عليه وسلم: (من رآني في المنام فقد رآني): فإن معنى الحديث أن رؤيته صحيحة، وليست من أضغاث الأحلام وتلبيس الشيطان. ولكن لا يجوز إثبات حكم شرعي به؛ لأن حالة النوم ليست حالة ضبط وتحقيق لما يسمعه الرائي، وقد اتفقوا على أن من شرط من تقبل روايته وشهادته أن يكون متيقظا، لا مغفلا ولا سيء الحفظ ولا كثير الخطأ ولا مختل الضبط، والنائم ليس بهذه الصفة، فلم تقبل روايته، لاختلال ضبطه.
هذا كله في منام يتعلق بإثبات حكم على خلاف ما يحكم به الولاة.
أما إذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم يأمره بفعل ما هو مندوب إليه، أو ينهاه عن منهي عنه، أو يرشده إلى فعل مصلحة: فلا خلاف في استحباب العمل على وَفقه؛ لأن ذلك ليس حكما بمجرد المنام، بل تقرر من أصل ذلك الشيء. والله أعلم" انتهى من "شرح مسلم" (1/ 115).
4-وفي حاشية العطار على "شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع" (2/ 467): "ولا يلزم من صحة الرؤية: التعويل عليها في حكم شرعي؛ لاحتمال الخطإ في التحمل، وعدم ضبط الرائي. (حكي) أن رجلًا رآه صلى الله عليه وسلم في المنام يقول: إن في المحل الفلاني ركازا، اذهب فخذه، ولا خُمس عليك، فذهب فوجده!! فاستفتى العلماء، فقال العز ابن عبد السلام: أخرج الخمس؛ فإنه ثبت بالتواتر، وقصارى رؤيتك الآحاد" انتهى.
فالأحكام الشرعية لا تؤخذ من المنامات.
والتعلق بأمر المنامات لا ينبغي، والمحب للنبي صلى الله عليه وسلم عليه أن يقرأ سنته وسيرته، ولعلك إن بحثت في سنته عما تريد، وجدته بأقرب طريق، وأصدقه، وأيسره. فكيف يعرض الإنسان عن الوحي المعصوم، ليلتمس المعرفة في أمر مظنون، قد يُلبَّس عليه فيه.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ) رواه أبو داود (4607)، والترمذي (2676) وابن ماجه (42).
وقال في خطبته في حجة الوداع: (وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ) رواه مسلم (1218)
فهذا هو سبيل النجاة، فتمسك به: الكتاب والسنة، وسنة الخلفاء الراشدين، واحرص على طلب العلم، وتلقيه على أيدي الثقات، تفزْ وتنجُ، بإذن الله.
والله أعلم.
تعليق