الحمد لله.
أولاً:
يجب على المسلم التأدب عند الحديث عن جناب النبي صلى الله عليه وسلم، فاستخدامك لألفاظ لا تليق بحقه، مع عدم إدراك لمخرج الحديث، وطبيعة كلام العرب: أمر لا يليق بالمسلم، ولا يتوافق مع ما أمر الله به من تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم، وغفلة عظيمة، بل جهالة بالغة بما تحفل سيرته بالرحمة العامة والخاصة، حتى الرحمة بالحيوان .. إذ حن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأسمعه شكواه.
فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: ” أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ خَلْفَهُ، فَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثًا لَا أُخْبِرُ بِهِ أَحَدًا، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَحَبُّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ فِي حَاجَتِهِ هَدَفٌ، أَوْ حَائِشُ نَخْلٍ، فَدَخَلَ يَوْمًا حَائِطًا مِنْ حِيطَانِ الْأَنْصَارِ، فَإِذَا جَمَلٌ قَدِ أتَاهُ فَجَرْجَرَ، وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ – قَالَ بَهْزٌ وَعَفَّانُ: فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ – فَمَسَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَرَاتَهُ وَذِفْرَاهُ، فَسَكَنَ، فَقَالَ: (مَنْ صَاحِبُ الْجَمَلِ؟) فَجَاءَ فَتًى مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: هُوَ لِي يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ: ” (أَمَا تَتَّقِي اللهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَهَا اللهُ، إِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ ) روه أحمد (1745)، وقال محققوه: “إسناده صحيح على شرط مسلم”.اهـ. ورواه مسلم (342) مختصرا.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ ، فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ ، فَرَأَيْنَا حُمَّرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ ، فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا ، فَجَاءَتْ الْحُمَرَةُ فَجَعَلَتْ تُفَرِّش ( أي : ترفرف بأجنحتها )، فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا ؟ رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا !!
رواه أبو داود (2675)، رواه أبو داود (2675)، وصححه الألباني في ” السلسلة الصحيحة ” (25)
والحُمّرة – بتشديد الميم وتخفيفها – : طائر صغير كالعصفور .
قال الخطابي، رحمه الله: ” الحُمّرة: طائر.
قوله: (تُفَرِّش) أو (تُعَرِّش): معناه ترفرف. والتفريش مأخوذ من فرش الجناح وبسطه. والتعريش أن يرتفع فوقهما ويظلل عليهما، ومنه أخذ العريش، يقال: عرشت عريشا، أعرُشُه، وأُعَرِّشه”. انتهى، من “معالم السنن” (2/283).
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. وننصحك بإعادة قراءة سيرته صلى الله عليه وسلم. ومظاهر الرحمة في حياته.
ثانياً:
الحديث المشار إليه في السؤال هو ما روا مسلم عن أنس بن مالك قال: “كانت عند أم سليم – وهي أم أنس بن مالك رضي الله عنه – يتيمة، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم اليتيمة. فقال (آنت هيه؟ لقد كبرت لا كبر سنك)، فرجعت اليتيمة إلى أم سليم تبكي. فقالت أم سليم: مالك؟ يا بنية! قالت الجارية: دعا على نبي الله صلى الله عليه وسلم ألا يكبر سني. فالآن لا يكبر سني أبدا. أو قالت قرني. فخرجت أم سليم مستعجلة تلوث خمارها. حتى لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مالك؟ يا أم سليم!)، فقالت: يا نبي الله! أدعوت على يتيمتي؟ قال: (وما ذاك؟ يا أم سليم!) قالت: زعمت أنك دعوت أن لا يكبر سنها ولا يكبر قرنها. قال فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال: (يا أم سليم! أما تعلمين أن شرطي على ربي، أني اشترطت على ربي فقلت: إنما أنا بشر؛ أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر؛ فأيما أحد دعوت عليه، من أمتي، بدعوة ليس لها بأهل، أن تجعلها له طهورا وزكاة وقربة يقربه بها منه يوم القيامة) رواه مسلم (2603)
وظاهر النص أنّ حديث النبي صلى الله عليه وسلم مع اليتيمة خرج مخرج الملاطفة، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يرها منذ زمن، وكان قد رآها صغيرة ثم غابت عنه مدة، فرآها قد كبرت عن ذي قبل فسألها هل أنت تلك الفتاة (آنتِ هِيه؟)، ثم مازحها بقوله: (لا كبر سنك)، وكأن النبي يقول لها بقاؤك صغيرة ألطف وأجمل. ولذا ضحك عندما سألته أم سليم عن الأمر.
قال ابو العباس القرطبي رحمه الله:
“وهذا الاستفهام على جهة التعجب، وكأنه صلى الله عليه وسلم كان قد رآها صغيرة، ثم غابت عنه مدة فرآها قد طالت وكبرت، فتعجب من سرعة ذلك، فقال لها ذلك القول متعجبا، فوصل كلامه بقوله: لا كبر سنك، على ما قلناه من إطلاق ذلك القول من غير إرادة معناه، وهذا واضح هنا” انتهى من “المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم” (6/ 586).
وهذه الكلمة خرجت على عادة العرب من الكلام الذي يجري على اللسان ولا يراد حقيقته، فقال لها هذه الكلمة ليس من باب الدعاء عليها، فإن العرب تطلق الفاظاً جرت على ألسنتهم ولا يريدون بها الدعاء على الشخص. مثل (تربت يمينك) (ثكلتك أمك) ونحوها.
قال القاضي عياض رحمه الله: “جرت به عادة العرب في دغم كلامها، وصلة خطابها، وإيراد بعض ألفاًظها عند حرجها، وتأكيدها وعينها، ليس على نية إجابة ذلك، كقوله: ” تربت يمينك “، و ” عقرى حلقى “، ونحوه مما جاء في الحديث من قوله: ” لا كبر سنك “، ” ولا أشبع الله بطنك “.
وقد يسمون السب لعناً، فأشفق – عليه السلام – من موافقة أمثالها، فعاهد ربه ودعاه ورغب إليه، بأن يجعل ذلك القول رحمة وقربة كما قال، ولم يكن صفته – عليه السلام – الفحش ولا التفحش، ولا بعث سباباً ولا لعاناً” انتهى من “إكمال المعلم بفوائد مسلم” (8/ 71).
وينظر: “الإفصاح عن معاني الصحاح” (5/ 340) لابن هبيرة.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم بأنه قد يصدر منه الدعاء على أحد حال الغضب من غير قصد، فهذا من باب تطييب خاطر أم سليم: أن هذه العبارة، حتى وإن خرجت مخرج الحقيقة؛ فإنّ الله يجعلها لصاحبها كفارة ورفعة وقربة.
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن في حال غضب، عندما قال لليتيمة ذلك؛ وإنما في حال تلطف.
فهذا طمأنة لأم سليم وتطييب لخاطرها، بأنه في كلا الحالين لا قلق على اليتيمة. وإن كان الحال الثاني ليس هو المراد، وهذا أسلوب متعارف في كلام الناس. بأن الأمر كذا، ولو كان على غير هذا فهو كذا.
والمعنى: أن ما وقع من سبه ودعائه صلى الله عليه وسلم على أحد ونحوه ليس بمقصود، بل هو مما جرت به العادة، فخاف صلى الله عليه وسلم أن يصادف شيء من ذلك وشبهه ساعة إجابة، فسأل ربه سبحانه ورغب إليه في أن يجعل ذلك رحمة وكفارة وقربة وطهورا وأجرا، وإنما كان يقع هذا منه صلى الله عليه وسلم نادرا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن فاحشا ولا لعانا.
قال الأُبِّي رحمه الله: “ضحك من خوف أم سليم من قبول دعائه صلى الله عليه وسلم على يتيمتها، أي تبسم تبسمًا مبالغًا، لأجل أن الجارية زعمت أن دعاءه صلى الله عليه وسلم حقيقة مقصودة، مع أنها [أي: هذه الكلمة] كانت جارية على عادة العرب، ولم تكن مقصودة.
وحاصل الجواب: أنها، ولو كانت مقصودة؛ كانت داخلةً في مشارطته صلى الله عليه وسلم مع ربّه، فلا تضرّها، بل تنفعها” انتهى من “الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج” (24/ 407).
ومن هنا تعلم أن المورد الذي أوردته في سؤالك ليس في محله، وأنّ على المسلم أن يعرف لنبيه قدره وفضله وهو الذي امتدحه الله بقوله (﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾.
ولذا اعتبر عدد من أهل العلم هذا الحديث دليلا على حسن خلقه صلى الله عليه وسلم في ملاطفة الصغار والأيتام، فذكره الإمام مسلم في كتاب البر والصلة والآداب.
وجاء في: “شرح مسلم” للشيخ آدم الأثيوبي رحمه الله (40/ 714): في بيان فوائد هذا الحديث:
1 – بيان ما كان عليه النبيّ – صلى الله عليه وسلم – من الخُلُق الكريم، حيث كان يلاطف الصغار، ويؤانسهم، قال الله – سبحانه وتعالى -: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4].
2 – بيان الحثّ على الرحمة، والشفقة على اليتامى، والحنوّ عليهم، فقد انزعجت أم سليم – رضي الله عنها – بسبب بكاء يتيمتها، حتى جاءت النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، واستثبتت الخبر منه، فأزال بها من القلق والانزعاج” انتهى.
والله أعلم.
تعليق