الحمد لله.
هذه العبارة وردت في حديث سيد الاستغفار، وهو حديث عظيم في معانيه ودلالاته ومراميه. ولذا سماه النبي صلى الله عليه وسلم (سيد الاستغفار):
فعن شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ. قَالَ: وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجنة رواه البخاري (5947).
ثانياً:
أما عن معنى عبارة (وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت)، فيقال فيه:
العهد هو: العهد الذي أخذه الله على عباده في أصل خلقهم، حين أخرجهم من أصلاب آبائهم أمثال الذر، (وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى) [الأعراف: 172]؛ فأقروا له في أصل خلقهم بالربوبية، وأذعنوا له بالوحدانية.
والوعد: هو ما وعدهم تعالى أنه من مات لا يشرك منهم بالله شيئا، وأدى ما افترض الله عليه: أن يدخل الجنة”> انظر “شرح صحيح البخاري – ابن بطال” (10/ 75) و”فتح الباري لابن حجر”(11/ 99):
وقيل:
العهد: ما عاهدتك عليه من الإيمان بك، وإخلاص الطاعة لك، ما استطعت من ذلك.
والوعد: أي موقن بما وعدت، ومستنجز وعدك في المثوبة والأجر عليه. انظر: “أعلام الحديث” للخطابي، (3/ 2236)، “سبل السلام”(4/ 710 ط الحديث) “منحة العلام في شرح بلوغ المرام، للفوزان”(10/ 436).
ولا تعارض بين المعنيين، وما احتمل أكثر من معنى من نصوص الشرع دون تعارض، فإنه يحمل عليها.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
“إذا احتمل اللفظ معنيين متساويين لا ينافي أحدهما الآخر حُمِل عليهما جميعًا.“انتهى من “تفسير العثيمين: الزخرف”(ص31).
قال الإمام الخطابي، رحمه الله: ” قوله: وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، يريد أنا على ما عاهدتك عليه وواعدتك من الإيمان بك وإخلاص الطاعة لك ما استطعت من ذلك، وقد يكون معناه أني مقيم على ما عهدت إلي من أمرك، ومتمسك به، ومتنجز وعدك في المثوبة والأجر عليه، واشتراطه الاستطاعة في ذلك معناه الاعتراف بالعجز والقصور عن كنه الواجب من حقه عز وجل”. انتهى، من “أعلام الحديث” (3/2237).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: «ثمَّ قال: “وأنا على عهدِك ووَعْدِك ما استطعتُ”، فالله سبحانه وتعالى عَهِد إلى عبادِه عهدًا أمرهم فيه ونهاهم، ووعدهم على وفائهم بعهده أن يثيبَهم بأعلى المثوبات، فالعبد يسير بين قيامه بعهد الله إليه وتصديقِه بوعدِه. أني أنا مقيم على عهدِك مُصدِّقٌ بوعدِك.
وهذا المعنى قد ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله: “من صام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه”. والفعل إيمانًا هو العهد الذي عَهِدَه إلى عبادِه، والاحتساب هو رجاؤه ثوابَ الله له على ذلك، وهذا لا يَليقُ إلاّ مع التصديق بوعده. وقوله “إيمانًا واحتسابًا” منصوبٌ على المفعول له، إنما يَحمِلُه على ذلك إيمانُه بأن الله شرعَ ذلك وأوجبَه ورَضِيَه وأمر به، واحتسابُه ثوابَه عند الله، أي يفعله خالصًا يرجو ثوابَه.
وقوله: “ما استطعتُ” أي إنما أقومُ بذلك بحسب استطاعتي، لا بحسب ما ينبغي لك وتستحقه علي. وفيه دليل على إثباتِ قوة العبد واستطاعتِه، وأنه غيرُ مجبورٍ على ذلك، بل له استطاعةٌ هي مناطُ الأمر والنهي والثواب والعقاب. ففيه رد على القدرية المجبِّرة الذين يقولون: إن العبد لا قدرةَ له ولا استطاعة، ولا فعلَ له البتَّة، وإنما يعاقبه الله على فعلِه هو، لا على فعل العبد. وفيه رد على طوائف المجوسية وغيرهم.» انتهى، من “جامع المسائل” (1/160).
وقال ابن القيم، رحمه الله: «ثمَّ قال: “وأنا على عهدك ووعدك”، فتضمن ذلك التزام شرعه وأمره ودينه -وهو العهد الذي عهِدَه إلى عباده- وتصديقَ وعده، وهو جزاؤه وثوابه. فتضمن التزام الأمر، والتصديق بالموعود، وهو الإيمان والاحتساب.
ثمَّ لمَّا علم أنَّ العبدَ لا يوفي هذا المقام حقَّه الذي يصلح له تعالى علَّق ذلك باستطاعته وقدرته التي لا يتعدَّاها، فقال: “ما استطعتُ” أي ملتزم ذلك بحسب استطاعتي وقدرتي.» انتهى، من “طريق الهجرتين” (1/358).
وقال أيضا: ” فتضمَّن هذا الاستغفارُ الاعترافَ من العبد بربوبيَّته وإلهيَّته وتوحيده، والاعترافَ بأنّه خالقه العالمُ به، إذ أنشأه نشأةً تستلزم عجزَه عن أداء حقِّه وتقصيرَه فيه، والاعترافَ بأنّه عبدُه الذي ناصيته بيده وفي قبضته، لا مهربَ له منه، ولا وليَّ له سواه. ثمّ التزامَ الدُّخول تحت عهده ــ وهو أمره ونهيه ــ الذي عهِدَه إليه على لسان رسله. وأنَّ ذلك بحسب استطاعتي، لا بحسب أداء حقِّك فإنّه غيرُ مقدورٍ للبشر، وإنّما هو جهدُ المقلِّ وقدرُ الطّاقة؛ ومع ذلك فأنا مصدِّقٌ بوعدك الذي وعدتَه لأهل طاعتك بالثّواب ولأهل معصيتك بالعقاب، فأنا مقيمٌ على عهدك، مصدِّقٌ بوعدك. ثمّ الاستعاذة والاعتصام بك من شرِّ ما فرّطتُ فيه من أمرك ونهيك، فإنّك إن لم تُعِذْني من شرِّه، وإلّا أحاطت بي الهلكة، فإنَّ إضاعةَ حقِّك سببُ الهلاك. وأنا أُقِرُّ لك وألتزمُ بنعمتك عليَّ، وأُقِرُّ وألتزمُ وأبخَعُ بذنبي، فمنك النِّعمةُ والإحسانُ والفضلُ، ومنِّي الذَّنبُ والإساءةُ. فأسألك أن تغفر لي بمحو ذنبي، وأن تَقِيَني من شرِّه، إنّه لا يغفر الذُّنوب إلّا أنت. فلهذا كان هذا الدُّعاء سيِّد الاستغفار، إذ هو متضمِّنٌ لمحض العبوديّة.
فأيُّ حسنةٍ تبقى للبصير الصّادق، مع مشاهدته عيوبَ نفسه وعمله، ومنّةَ الله عليه؟ فهذا الذي يعطيه نظرُه إلى نفسه ونقصه.” انتهى، من “مدارج السالكين” (1/347).
وقال: ” مدارج السالكين” (3/ 490 ط عطاءات العلم):
وفي حديث سيِّد الاستغفار قوله: «وأَنا على عهدِك ووعْدِك ما استطعتُ»، أي مقيمٌ على التّصديق بوعدك، وعلى القيام بعهدك، بحسب استطاعتي.
والحامل على هذه الإقامة والثّبات: ذوقُ طعم الإيمان، ومباشرته للقلب. ولو كان الإيمان مجازًا لا حقيقةً لم يثبت القلب على حكم الوعد والوفاء بالعهد، ولا يُقيمُه في هذا المقام إلّا ذوقُ طعم الإيمان. وثوبُ العارية لا يُجمِّل صاحبَه، ولا سيّما إذا عرف النّاس أنّه ليس له، وأنّه عاريةٌ عليه، كما قيل:
ثوبُ الرِّياء يَشِفُّ عمّا تحتَه … فإذا اشتملتَ به فإنّك عارِي”. انتهى، من “مدارج السالكين” (3/490).
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم: (218905)، ورقم: (404015)، ورقم: (114214).
والله أعلم.
تعليق