الحمد لله.
أولا :
الأصل أن يسمى المهر عند النكاح. وإن كان منه شيء آجل، يبين عاجله، وآجله.
جاء في “الموسوعة الفقهية الكويتية” (24/64): “المهر هو المال الذي تستحقه الزوجة على زوجها بالعقد عليها أو بالدخول بها.
وهو حق واجب للمرأة على الرجل عطية من الله تعالى مبتدأة، أو هدية أوجبها على الرجل بقوله تعالى: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة}، إظهارا لخطر هذا العقد ومكانته، وإعزازا للمرأة وإكراما لها”.
وينظر: المهذب للشيرازي (2/ 462)، ” الكافي لابن قدامة (3/84)، المغني لابن قدامة (7/210).
ثانيا ً:
إذا وقع عقد النكاح بدون تسمية المهر: صح، بالإجماع، ويثبت للزوجة على زوجها: مهر مثلها.
قال ابن حزم رحمه الله: “واتفقوا أن لكل موطوءة بنكاح صحيح، ولم يكن سمى لها مهرا فلها مهر مثلها”اهـ مراتب الإجماع (ص: 69).
قال الكاساني رحمه الله: “ولا خلاف في أن النكاح يصح من غير ذكر المهر”اهـ بدائع الصنائع (2/274).
قال ابن تيمية رحمه الله: “واتفق العلماء على أن من تزوج امرأة، ولم يقدر لها مهرا: صح النكاح”اهـ. مجموع الفتاوى (32/62).
ثالثًا :
مؤجل الصداق: دين في ذمة الزوج، وحق من حقوق المرأة على زوجها.
ومرجع استيفائه إلى الشرط حين العقد، إذا وُجد، أو إلى العرف السائد بين الناس في مجتمع الزوجين ، المعمول به لديهم بلا نكير ؛ إذ المعروف عرفا كالمشروط شرطا .
رابعًا :
حكم تأجيل الصداق من حيث صحة العقد:
يصح تأجيل الصداق كله أو بعضه، باتفاق المذاهب الأربعة.
ينظر: العناية شرح الهداية للعيني (3/370)، شرح الزرقاني على مختصر خليل وحاشية البناني (4/9)، نهاية المحتاج (6/338)، كشاف القناع (11/462).
لكن عند المالكية: يكره تأجيله .
قال الدردير رحمه الله: “يكره تأجيله بأجل معلوم، ولو إلى سنة؛ لئلا يتذرع الناس إلى النكاح بغير صداق، ويظهرون أن هناك صداقاً مؤجلاً، ولمخالفته لفعل السلف”اهـ.
الشرح الكبير للدردير (2/297، 309).
خامسًا:
تأجيل الصداق له ثلاث حالات:
الحال الأولى: التأجيل إلى وقت محدد.
فاتفق الفقهاء على صحة التأجيل، ما دام الأجل معلوما .
الحال الثانية: التأجيل إلى وقت وزمن مجهول؛ كأن يؤجل المهر إلى قدوم زيد أو هبوب الريح، أو مجيء المطر، ونحوه مما لا يعلم له وقت، لم يصح للجهالة: فيبطل الأجل، باتفاق المذاهب الأربعة.
انظر: (بدائع الصنائع (2/ 288)، الشرح الكبير وحاشية الدسوقي (2/297)، كشاف القناع (11/462).
ويجب المهر حالاً عند الجمهور.
وعند الشافعية تفسد التسمية في التأجيل إلى زمن مجهول، ويجب لها مهر المثل؛ لأنه عوض مجهول المحل؛ ففسد، كالثمن في البيع. تحفة المحتاج (7/ 385) .
الحال الثالثة: التأجيل مطلقا:
إذا اشترط الزوج تأجيل الصداق ولم يذكر وقتا محددًا، فقد اختلف الفقهاء رحمهم الله في صحة ذلك، ووقت حلوله، على أقوال:
القول الأول: أنه يصح التأجيل، وأن هذا المؤخر لا تستحق الزوجة المطالبة به، إلا بموت أو فرقة، إما منه، أو منها.
وهذا هو الصحيح من مذهب الحنابلة، وهو المفتى به عند الحنفية، وقول بعض المالكية، واختاره ابن تيمية. واختاره من العلماء المعاصرين الشيخ ابن عثيمين رحم الله الجميع.
بدائع الصنائع: (2/ 288)، منح الجليل: (3/422)، الإنصاف (21/ 127)، مجموع الفتاوى (32/ 196)، الشرح الممتع (12/ 273).
دليل هذا القول:
- “أن الاتفاق وقع على تأجيل الصداق، كله أو بعضه؛ فوجب أن يكون مؤجلا، عملًا بالشرط؛ لحديث عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن أحق الشرط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج” متفق عليه .
- أن العادة قد جرت على جعل بعض الصداق معجلاً والبعض الآخر مؤجلاً، كما جرت العادة على أن المؤجل لا تطالب به المرأة إلا بالموت أو الفراق. ينظر: الفقه الميسر، د. عبد الله المطلق(5/47).
- أن المطلق يحمل على العرف، والعادة في الصداق الآجل: ترك المطالبة به إلى حين الفرقة، فحمل عليه، فيصير حينئذ معلوما بذلك. المغني لابن قدامة (7/ 222).
قال الشيخ ابن عثيمين، رحمه الله: “فإذا قال قائل: كيف يصح هذا الأجل وهو لا يُدرَى متى يكون، فلا أحد يعلم متى يحصل الفراق، مع أنكم تقولون: لو أجل ثمن المبيع بأجل غير معلوم لم يصح، فما الفرق؟
الفرق أن البيع يراد به المعاوضة المالية، والمعاوضة المالية لا بد أن تكون محددة؛ لئلا تحصل الجهالة التي تؤدي إلى التنازع والعداوة والبغضاء.
أما النكاح فليس المال هو القصد الأول به، إذ إن القصد الأول بالنكاح هو المعاشرة والاستمتاع، فلذلك سُهِّلَ فيه”. الشرح الممتع (12/273).
القول الثاني: أن للمرأة حق المطالبة به حالًا، وهو ظاهر الرواية عند الحنفية، [والمهر فاسد، ولها مهر المثل، عند الشافعية، ورواية عن أحمد]” بدائع الصنائع (2/ 288)، الإنصاف (21/128)،
ووجه قول الحنفية: القياس على البيع. قالوا: إن النكاح عقد معاوضة، فيقتضي المساواة من الجانبين في العوض، والمرأة قد عينت حق الزوج عند تسليم نفسها؛ فيجب أن يعين الزوج حقها بذلك، فوجب أن يكون حالًا.
وكذا لو كان الأجل مجهولًا جهالة متفاحشة، كوقت هبوب الرياح ونحو ذلك.
ووجه قول الشافعية: أن التسمية في هذه الحالة تكون فاسدة، لجهالة العوض بجهالة أجله؛ فيرد ذلك إلى مهر المثل ويحق لها المطالبة به حالًا”. الفقه الميسر (5/48).
القول الثالث: أن النكاح يفسخ بذلك قبل البناء. فإذا بنى بزوجته، لم يفسخ، ويثبت لها مهر المثل، ويكون حالًا.
وهذا هو المشهور من مذهب المالكية، والعمل عليه عندهم.
كما أنهم يرون أن الصداق إذا أجل كله أو بعضه إلى ما يزيد على خمسين سنة: فسد النكاح؛ لأن التقدير بذلك مظنة إسقاط الصداق.
التاج والإكليل (3/ 510)، الشرح الكبير وحاشية الدسوقي (2/297، 304)، مواهب الجليل (3/ 510).
والراجح –والله أعلم-: هو القول الأول، من صحة التسمية، وعدم تمكين المرأة من المطالبة به إلا بموت أو فرقة.
قال ابن القيم رحمه الله: “إذا قال الزوج: مئة مقدّمة، ومئة مؤخّرة؛ فإن المؤخَّر لا يستحق المطالبة به إلا بموتٍ أو فُرْقَةٍ، هذا هو الصحيح، وهو منصوص أحمد…
وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو قول النخعي والشعبي والليث بن سعد، وله فيه رسالة كتبها إلى مالك ينكر عليه خلافَ هذا القول…
والصحيحُ ما عليه أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من صحة التسمية، وعدم تمكين المرأة من المطالبة به إلا بموتٍ أو فرقةٍ، حكاه الليث إجماعًا منهم، وهو محض القياس والفقه، فإن المُطْلَقَ من العقود ينصرفُ إلى العرف والعادة عند المتعاقدين..،
والعادةُ جاريةٌ بين الأزواج بترك المطالبة بالصداق إلا بالموت أو الفراق، فجرت العادة مجرى الشرط كما تقدم ذكر الأمثلة بذلك، …
وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “المسلمون عَلَى شروطهم، إلا شرطًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا”، وهذا لا يتضمن واحدًا من الأمرين، فإن ما أحلَّ الحرَّام وحرَّم الحلال لو فعلاه بدون الشرط لما جاز، وقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إن أحقَّ الشروط أن توفوا به، ما استحللتم به الفروج” انتهى. إعلام الموقعين (4/ 473).
“وإذا ثبت هذا؛ فلا بأس في توثيق ذلك، ليكون حجة عند الفراق أو الموت.
قال شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله: “ولم يكن الصحابة يكتبون صداقات؛ لأنهم لم يكونوا يتزوجون على مؤخر، بل يعجلون المهر، وإن أخروه، فهو معروف.
فلما صار الناس يتزوجون على المؤخر، والمدة تطول، ويُنسى: صاروا يكتبون المؤخر، وصار ذلك حجة في إثبات الصداق” مجموع الفتاوى (32/131).
وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بأن ما حدد أجله من الصداق بالطلاق أو الموت: وجب سداده عند ذلك.
وما لم يحدد له أجل: يجب سداده عند الطلاق أو الموت في فتواها رقم (4907)، وفتواها رقم (6871)، (19/ 54 , 60)”.
سادسًا:
يجوز للمرأة أن تمتنع من تسليم نفسها قبل أن تقبض صداقها الذي حلّ وليس المؤجل.
الأدلة:
1-نقل الإجماع على ذلك جمع من أهل العلم.
قال ابن المنذر: “وأجمعوا أن للمرأة أن تمنع من دخول الزوج عليها حتى يعطيها مهرها”اهـ الإجماع لابن المنذر (ص: 78)، الإشراف (5/54).
وقال القاضي عبد الوهاب رحمه الله: “إذا تزوجها على صداق حالّ غير مؤجل، فلها أن تمنع الزوج من نفسها حتى تقبضه؛ بلا خلاف” اهـ. عيون المجالس (3/1141).
2- و”لأن تسليم نفسها قبل تسليم صداقها، يفضي إلى أن يستوفي منفعتها المعقود عليها بالوطء، ثم لا يسلم صداقها، فلا يمكنها الرجوع فيما استُوفي منها، بخلاف المبيع إذا تسلمه المشتري ثم أعسر بالثمن، فإنه يمكنه الرجوع فيه؛ فلهذا ألزمناه تسليم صداقها أولا، وجعلنا لها أن تمتنع من تسليم نفسها حتى تقبض صداقها؛ لأنه إذا سلم إليها الصداق ثم امتنعت من تسليم نفسها، أمكن الرجوع فيه.
فإذا ثبت هذا، فمتى امتنعت من تسليم نفسها لتقبض صداقها، فلها نفقتها؛ لأنها امتنعت بحق”. المغني لابن قدامة (8/230).
وينظر: العناية شرح الهداية (3/370)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (2/434)، نهاية المحتاج (6/338).
وينظر: اجابة السؤال: (145955) ، (243818).
والله أعلم
تعليق