الحمد لله.
نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفي مريضكم.
أولاً:
قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (داووا مرضاكم بالصدقة) رواه أبو داود في المراسيل(105)، والطبراني في الأوسط (1963) ، واختلف العلماء في تصحيحه، وحسنه الألباني في “صحيح الجامع” (3358). وقد ألف أحمد الغماري جزء بعنوان (الزواجر المقلقة لمنكر التداوي بالصدقة). وانظر: فتوى (82098).
ثانياً:
لا حرج على المريض أن يحفر بئراً يرجو به الشفاء من الله تعالى لمرضه أو مرض ابنه أو غيره ، فإن الصدقة سبب من أسباب الشفاء، ونرجو لابنه الشفاء بإذن الله تعالى، كما يدلّ عليه الحديث. وينبغي أن نحسن الظن بالله تعالى، فقد قال تعالى: “أنا عند ظن عبدي بي” رواه الترمذي (2388)، وابن ماجه (3822)، وصححه الترمذي والألباني.
وانظر جواب السؤال رقم (107549)، فقد ذكرنا فيه فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء وفتوى الشيخ عبد الله بن جبرين رحمه الله في ذلك .
ثالثاً :
نستفيد من حديث: “داووا مرضاكم بالصدقة” استحباب الصدقة لرفع المرض.
قال ابن الحاج رحمه الله: “وآكد ما على المريض أو وليه امتثال السنة في الصدقة لما ورد في الحديث عنه – عليه الصلاة والسلام – أنه قال «داووا مرضاكم بالصدقة وادفعوا البلاء بالصدقة واستعينوا على قضاء حوائجكم بالصدقة»، وذلك راجع إلى حال المرض والمريض؛ فإن كان المرض شديداً فليكثر من الصدقة، وإن كان ملياً فكذلك، وإن كان فقيرًا فجهد المقل، لحديث «عائشة – رضي الله عنها – في التمرة التي تصدقت بها على المرأة ومعها ابنتان فشقتها نصفين وأعطت كل واحدة منهما نصفا». والمقصود من الصدقة أن المريض يشتري نفسه من ربه عز وجل بقدر ما تساوي نفسه عنده، والصدقة لا بد لها من تأثير على القطع؛ لأن المخبر – صلى الله عليه وسلم – صادق والمخبر عنه كريم منان”اهـ. المدخل لابن الحاج (4/141).
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟ قال: “جهد المقل وابدأ بمن تعول” رواه أبو داود (1677)، والنسائي (2526)، وصححه الألباني .
“(جُهْدُ الْمُقِلِّ) “الجُهد”: الوسع والطاقة، و”المُقِلّ”: الفقير الذي معه شيء قليل من المال: أي إن أفضل الصدقة هو الذي يتصدّق به قليل المال على قدر طاقته، ووسعه. وإنما كانت صدقة المقلّ أفضل من صدقة الغنيّ؛ لأن الفقير يتصدّق بما هو محتاجٌ إليه، بخلاف الغنيّ، فإنه يتصدّق بفضول ماله. وهذا نظير الحديث التالي: “سبق درهم مائة ألف درهم … ” الحديث. ولا تنافي بينه وبين حديث أبي هريرة مرفوعًا: “خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى … ” الحديث. فإن حديث “جهد المقل” محمول على قويّ الإيمان الذي يصبر على الفاقة، ويكتفي بأقلّ الكفاية. وحديث “ما كان عن ظهر غنى” محمول على ضعيف الإيمان، والفضيلة تتفاوت بحسب الأشخاص، وقوة التوكل، وضعف اليقين”. شرح المشكاة للطيبي (5/1564)، ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (22/346).
رابعاً:
الصدقة بالماء لها فضل عظيم.
فعن سعد بن عبادة رضي الله عنه أنه قال: (يا رسولَ اللهِ، أيُّ الصدقةِ أفضلُ؟ قال: سقْيُ الماءِ). أخرجه النسائي(3664) وابن ماجه (3684)، وحسّنه الألباني
وعنه رضي الله عنه أنه قال: (يا رسولَ الله، إنَّ أمَّ سَعدٍ ماتت، فأيُّ الصَّدقةِ أفضلُ؟ قالَ: الماءُ، قالَ: فحفرَ بئرًا، وقالَ: هذِهِ لأمِّ سَعدٍ). رواه أبو داود(1681)، وحسّنه الألباني.
خامساً:
ينبغي ملاحظة أن الصدقة الواردة في الحديث لا تقتصر على حفر البئر فقط؛ بل تشمل جميع أنواع صدقات التطوع. انظر: فيض القدير (3/ 514-687).
سادساً:
ما زال الناس من علماء وغيرهم يدفعون الأمراض والبلايا بالتقرب إلى الله بالصدقات.
قال ابن مفلح رحمه الله بعد ذكره لحديث “داووا مرضاكم بالصدقة”: “وجماعة من أصحابنا وغيرهم يفعلون هذا، وهو حسن، ومعناه صحيح”. الفروع (3/261).
وقال ابن القيم رحمه الله: “السبب الثامن: الصدقة والإحسان ما أمكنه، فإن لذلك تأثيرًا عجيبًا في دفع البلاء ودفع العين وشر الحاسد، ولو لم يكن في هذا إلا تجارب الأمم قديماً وحديثاً لكفى به، فما يكاد العين والحسد والأذى يتسلط على محسن متصدق، وإن أصابه شيء من ذلك كان معاملاً فيه باللطف والمعونة والتأييد، وكانت له فيه العاقبة الحميدة”اهـ. بدائع الفوائد (2/771).
سابعاً :
قد ورد عن السلف العمل بحديث “داووا مرضاكم بالصدقة”، ومن ذلك:
1. ما ذكره السائل: فقد روى البيهقي في شعب الإيمان (5/ 69): “عن علي بن الحسن بن شقيق، قال: سمعت ابن المبارك، وسأله رجل: يا أبا عبد الرحمن، قرحة خرجت في ركبتي منذ سبع سنين، وقد عالجت بأنواع العلاج، وسألت الأطباء فلم أنتفع به، قال: ” اذهب، فانظر موضعاً يحتاج الناس إلى الماء فاحفر هناك بئراً، فإني أرجو أن تنبع هناك عين، ويمسك عنك الدم ” ففعل الرجل فبرئ”.
2. قال البيهقي رحمه الله عقب الحكاية السابقة: “وفي هذا المعنى حكاية قرحة شيخنا الحاكم أبي عبد الله رحمه الله، فإنه قرح وجهه وعالجه بأنواع المعالجة، فلم يذهب، وبقي فيه قريباً من سنة، فسأل الأستاذ الإمام أبا عثمان الصابوني أن يدعو له في مجلسه يوم الجمعة، فدعا له، وأكثر الناس في التأمين، فلما كانت الجمعة الأخرى ألقت امرأة في المجلس رقعة بأنها عادت إلى بيتها، واجتهدت في الدعاء للحاكم أبي عبد الله تلك الليلة، فرأت في منامها رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه يقول لها: قولوا لأبي عبد الله: يوسع الماء على المسلمين، فجئت بالرقعة إلى الحاكم أبي عبد الله، فأمر بسقاية الماء بنيت على باب داره، وحين فرغوا من البناء أمر بصب الماء فيها، وطرح الجَمَد في الماء، وأخذ الناس في الشرب، فما مر عليه أسبوع حتى ظهر الشفاء، وزالت تلك القروح، وعاد وجهه إلى أحسن ما كان، وعاش بعد ذلك سنين”اهـ. (الجمد): مَا جمد من المَاء فَصَارَ ثلجاً. المعجم الوسيط (1/133). وصحح هذه الحكاية الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/568) (964).
3. قال أبوطاهر السِّلَفي في معجم السفر (ص: 251) (827): “سمعت أبا الحسن علي بن أبي بكر أحمد بن علي الكاتب المينزي بدمشق يقول: سمعت أبا بكر الخبازي بنيسابور يقول: مرضت مرضاً خطراً، فرآني جار لي صالح، فقال: استعمل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : “داووا مرضاكم بالصدقة”، وكان الوقت ضيقا(ولعله: صيفاً)، فاشتريت بطيخاً كثيراً، واجتمع جماعة من الفقراء والصبيان، فأكلوا ورفعوا أيديهم إلى الله عز وجل ودعوا لي بالشفاء، فوالله ما أصبحت إلا وأنا في كل عافية من الله تبارك وتعالى”.
4. قال المناوي رحمه الله: “وكان ذوو الفهم عن الله إذا كان لهم حاجة يريدون سرعة حصولها؛ كشفاء مريض: يأمرون باصطناع طعام حسن بلحم كبش كامل، ثم يدعون له ذوي القلوب المنكسرة، قاصدين فداء رأس برأس، وكان بعضهم يرى أن يخرج من أعز ما يملكه؛ فإذا مرض له من يعز عليه، تصدق بأعز ما يملكه من نحو جارية أو عبد أو فرس، يتصدق بثمنه على الفقراء من أهل العفاف”اهـ. فيض القدير (3/ 687).
والله أعلم.
تعليق