الحمد لله.
أولاً :
منصب القضاء منصب شريف ، وفيه فضل عظيم لمن قوي على القيام به ، وقد قام به الأنبياء عليهم السلام ، وبعض كبار الصحابة رضي الله عنهم ، وبعض الأعلام من التابعين فمن بعدهم ، ففي القضاء العادل أمرٌ بالمعروف ، ونهي عن المنكر ، ونصرة للمظلوم .
قال محمد الخادمي – رحمه الله -:
"علم القضاء من أجل العلوم قدراً ، وأعزهاً مكاناً ، وأشرفها ذِكراً ؛ لأنه مقام عليٌّ ، ومنصب نبوي ، به الدماء تُعصم وتُسفح ، والأبضاع تُحرَّم وتُنكَح ، والأموال يثبت مِلكها ويسلب ، والمعاملات يُعلم ما يجوز منها ويَحرم ويُكره ويُندب ، والدليل على أن علم القضاء ليس كغيره ( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث ) الآية ، ومنه بُعثَ الرسلِ ، وبالقيام به قامت السموات والأرض ، وجعله عليه الصلاة والسلام من النِّعَم التي يُباح الحسد عليها بقوله ( لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعمل بها ) ، وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : " لأن أقضي يوماً أحب إليَّ من عبادة سبعين سنة " ، فلذلك كان العدل بين الناس من أفضل أعمال البر وعليِّ درجات الآخرة ، قال الله تعالى ( وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ) ، فأي شيء أشرف من محبة الله" .
" بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية " ( 4 / 2 ، 3 ) .
وقال ابن قدامة – رحمه الله - :
"وفيه فضل عظيم لِمن قَوِىَ على القيام به ، وأداء الحق فيه ، ولذلك جعل الله فيه أجراً مع الخطأ ، وأسقط عنه حكم الخطأ ، ولأن فيه أمراً بالمعروف ، ونصرة للمظلوم ، وأداء الحق إلى مستحقه وردعاً للظالم عن ظلمه ، وإصلاحاً بين الناس ، وتخليصاً لبعضهم من بعض ، وذلك من أبواب القرب .
ولذلك تولاه النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله ، فكانوا يحكمون لأممهم .
وبعث صلى الله عليه وسلم عَلِيّاً إلى اليمن قاضياً ، وبعث مُعَاذاً قاضياً .
وقد روي عن ابن مسعود أنه قال : لأنْ أجلس قاضياً بين اثنين أحب إليَّ من عبادة سبعين سنة" .
" المغني " ( 11 / 376 ) .
وفي " الموسوعة الفقهية " ( 33 / 289 ) :
"ولعلوّ رتبته وعظيم فضله جعل الله فيه أجراً مع الخطأ ، وأسقط عنه حكم الخطأ ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر ) – متفق عليه - وإنما أُجِر على اجتهاده ، وبذْل وسعه ، لا على خطئه" .
انتهى
ثانياً :
تولي القضاء قد يكون واجباً ، وقد يكون مباحاً ، وقد يحرم : فيحرم على من تولاه وهو جاهل بأحكام الشريعة ، ويباح لمن كان يحسن القضاء ويوجد غيره يقوم به ، ويجب على من يحسنه ولا يوجد غيره ليحكم بين الناس ويقضي بينهم .
قال ابن قدامة – رحمه الله - :
"والناس في القضاء على ثلاثة أضرب :
1. منهم : من لا يجوز له الدخول فيه ، وهو من لا يحسنه ، ولم تجتمع فيه شروطه ، فقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : ( القضاة ثلاثة ) – ذكر منهم رجلا قضى بين الناس بجهل فهو في النار - ؛ ولأن من لا يحسنه لا يقدر على العدل فيه فيأخذ الحق من مستحقه فيدفعه إلى غيره .
2. ومنهم : من يجوز له ، ولا يجب عليه ، وهو من كان من أهل العدالة والاجتهاد ، ويوجد غيره مثله ، فله أن يلي القضاء بحكم حاله وصلاحيته ، ولا يجب عليه ؛ لأنه لم يتعين له ، وظاهر كلام أحمد أنه لا يستحب له الدخول فيه ؛ لما فيه من الخطر والغرر ، وفي تركه من السلامة ؛ ولما ورد فيه من التشديد والذم ؛ ولأن طريقة السلف الامتناع منه والتوقي ، وقد أراد عثمان رضي الله عنه تولية ابن عمر القضاء فأباه ، وقال أبو عبد الله بن حامد : إن كان رجلا خاملا لا يُرجع إليه في الأحكام ولا يُعرف : فالأولى له توليه ليرجع إليه في الأحكام ، ويقوم به الحق ، وينتفع به المسلمون ، وإن كان مشهوراً في الناس بالعلم ، يُرجع إليه في تعليم العلم والفتوى : فالأولى الاشتغال بذلك ؛ لما فيه من النفع ، مع الأمن من الغرر ، ونحو هذا قال أصحاب الشافعي ، وقالوا – أيضاً - : إذا كان ذا حاجة ، له في القضاء رزق : فالأولى له الاشتغال به ، فيكون أولى من سائر المكاسب ؛ لأنه قربة وطاعة ....
الثالث : من يجب عليه ، وهو من يصلح للقضاء ، ولا يوجد سواه : فهذا يتعين عليه ؛ لأنه فرض كفاية ، لا يقدر على القيام به غيره فيتعين عليه ، كغسل الميت وتكفينه .
وقد نُقل عن أحمد ما يدل على أنه لا يتعين عليه ، فإنه سئل : هل يأثم القاضي إذا لم يوجد غيره ؟ قال : لا يأثم .
فهذا يحتمل أنه يحمل على ظاهره في أنه لا يجب عليه ؛ لما فيه من الخطر بنفسه ، فلا يلزمه الإضرار بنفسه لنفع غيره ، ولذلك امتنع أبو قلابة منه ، وقد قيل له ليس غيرك ، ويحتمل أن يحمل على من لم يمكنه القيام بالواجب لظلم السلطان أو غيره فإنَّ أحمد قال : لا بد للناس من حاكم ، أتذهب حقوق الناس ؟" .
" المغني " ( 11 / 376 ) .
وبعض أهل العلم أجرى الأحكام الخمسة في القضاء ، وهي التحريم والإيجاب والندب والكراهة والإباحة .
انظر : " معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام " للشيخ علاء الدين الطرابلسي – رحمه الله - ( ص 10 ) .
ثالثاً :
لبعض الأئمة أقوال في التحذير من تولي القضاء ، وعظم خطر هذا المنصب ، ومن ذلك :
1. عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : لو يعلم الناس ما في القضاء ما قضوا في ثمن بعرة ! ولكن لا بد للناس من القضاء ، ومن إمرة ، برة أو فاجرة .
" أخبَارُ القُضاة " لأبي بكر الضبي الملقب بـ" وكيع " ( ص 21 ) .
2. عن المعلى بن روبة قال : قال لي رجاء بن حيوة : ولَّى الأميرُ اليوم عبدَ الله بن موهب القضاءَ ، ولو اخترت بين أن أحمل إلى حفرتي وبين ما ولي ابن موهب : لاخترت أن أُحمل إلى حفرتي ؛ فقلت له : فإن الناس يتحدثون أنك أنت أشرت به ؛ قال : صدقوا ، لأني نظرت للعامة ، ولم أنظر له.
" أخبَارُ القُضاة " ( ص 23 ، 24 ) .
3. عن مكحول قال : لأن أقدَّم فتضرب عنقي أحب إلى من أن ألي القضاء .
4. عن رافع ، أن عمر بن هبيرة دعاه ليوليه القضاء ؛ فقال : ما يسرني أني وليت القضاء ، وأن سواري مسجدكم هذا لي ذهباً .
5. قال الفضيل بن عياض : إذا ولي الرجل القضاء : فليجعل للقضاء يوماً ، وللبكاء يوماً .
6. عن ابن شبرمة قال : لا تجترئ على القضاء حتى تجرئ على السيف .
" أخبَارُ القُضاة " ( ص 24 ) .
رابعاً :
قد عزف كثير من الأئمة عن تولي القضاء ، بل وقبَل بعضهم بالضرب والسجن على توليه ، وهرب بعضهم من بلده من أجل أن لا يتولى القضاء ، ويمكن إجمال أسباب عزوف أولئك الأئمة عن القضاء بالأسباب التالية :
1. أنه يرى نفسه ليس أهلاً للقضاء ، فالمعروف عن القضاء أنه يحتاج لسعة بال ، وذكاء ، وفطنة ، وقد يرى الإمام العازف عن القضاء نفسه غير محقق لتلك الشروط .
قال الشيخ علاء الدين الطرابلسي – رحمه الله - :
قال بعض الأئمة : وشعار المتقين " البعد عن هذا والهرب منه " ، وقد ركب جماعة ممن يقتدى بهم من الأئمة المشاق في التباعد عن هذا وصبروا على الأذى .
وانظر إلى قضية أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - في الامتناع منه وصبره على الإيذاء حتى تخلص ، وكذا غيره من الأئمة .
وقد هرب أبو قِلابة إلى مصر لما طلب للقضاء فلقيه أيوب فأشار إليه بالترغيب فيه ، وقال له : لو ثبتَّ لنلتَ أجراً عظيماً ، فقال له أبو قلابة : الغريق في البحر إلى متى يسبح ؟ ! .
وكلام أبي قلابة هذا ومن تقدمه وما أشبه ذلك من التهديد والتخويف : إنما هو في حق من علم في نفسه الضعف ، وعدم الاستقلال بما يجب عليه ، وكذلك من يرى نفسه أهلا للقضاء والناس لا يرونه أهلا لذلك .
وقد قال بعض العلماء : لا خير فيمن يرى نفسه أهلا لشيء لا يراه الناس أهلا لذلك .
والمراد بالناس : العلماء ، فهرُبُ مَن كان بهذه الصفة عن القضاء واجب ، وطلبه سلامة نفسه أمر لازم .
" معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام " ( ص 9 ) .
2. أنه يرى أنه غير واجب عليه ، ولا مستحب ، بل إن قولاً للإمام أحمد يحتمل أن يكون معناه : أنه لا يجب عليه حتى لو تعيَّن الأمر عليه ، ولم يوجد غيره .
3. أن فيه خطراً في الحكم بخلاف الحق ، فيخشى العالِم على نفسه من تولي القضاء من أجل ذلك .
قال ابن قدامة – رحمه الله - :
"وفيه – أي : القضاء - خطر عظيم ، ووزر كبير ، لمن لم يؤدِّ الحق فيه ، ولذلك كان السلف رحمة اللّه عليهم يمتنعون منه أشد الامتناع ، ويخشون على أنفسهم خطره" .
" المغني " ( 11 / 376 ) .
وفي " الموسوعة الفقهية " ( 33 / 289 ، 290 ) :
"كان كثير من السلف الصالح يحجم عن تولّي القضاء ويمتنع عنه أشد الامتناع حتى لو أوذي في نفسه ؛ وذلك خشيةً من عظيم خطره ، كما تدلّ عليه الأحاديث الكثيرة والتي ورد فيها الوعيد والتخويف لمن تولى القضاء ولم يؤدّ الحق فيه ، كحديث : ( إن الله مع القاضي ما لم يجر ، فإذا جار تخلى عنه ولزمه الشيطان ) ـ [ رواه الترمذي وابن ماجه ، وحسنه الألباني ] ـ ، وحديث : ( من ولي القضاء أو جعل قاضياً فقد ذبح بغير سكّين ) – [ رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه ، وصححه الألباني ] - ، وحديث : ( القضاة ثلاثة : قاضيان في النار ، وقاض في الجنة ، رجل قضى بغير الحقّ فعلم ذاك فذاك في النار ، وقاض لا يعلم فأهلك حقوق الناس فهو في النار ، وقاض قضى بالحقّ فذلك في الجنة ) – [ أخرجه الترمذي ( 3 / 604 ) والحاكم ( 904 ) من حديث بريدة ، واللفظ للترمذي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي ] - . انتهى
4. عدم القدرة على تحمل بلاء القضاء .
قال الشيخ أبو الحسن النباهي – رحمه الله - :
"ولما تقرر من بلاء القضاء : فرَّ عنه كثير من الفضلاء ، وتغيبوا ، حتى تركوا ، وسُجن بسببه عند الامتناع آخرون ، منهم أبو حنيفة ، وهو النعمان بن ثابت ، دعاه عمر بن هبيرة للقضاء ، فأبى ؛ فحبسه ، وضربه أياماً ، كل يوم عشرة أسواط ، وهو متماد على إبايته ، إلى أن تركه" .
" تاريخ قضاة الأندلس " ( ص 7 ) .
5. انشغالهم بما هو أهم ، كانشغالهم بالرحلة في طلب العلم ، وتعليم الناس .
وأخيراً : إذا كان الأئمة الأربعة – كما يروى عنهم - قد امتنعوا عن القضاء : فإن الأنبياء الكرام عليهم السلام والخلفاء الراشدين الأربعة قد تولوه ، وباب الورع واسع لمن أراد التورع عنه .
ففي " الموسوعة الفقهية " ( 33 / 290 ) :
"فقد تقلده – أي : القضاء - بعد المصطفى صلوات الله عليه وسلامه الخلفاء الراشدون ، سادات الإسلام وقضوا بين الناس بالحقّ ، ودخولهم فيه دليل على علوّ قدره ، ووفور أجره ، فإن من بعدهم تبع لهم ، وَوَلِيَهُ بعدهم أئمة المسلمين من أكابر التابعين وتابعيهم ، ومن كره الدّخول فيه من العلماء مع فضلهم وصلاحيتهم وورعهم ، محمول كرههم على مبالغة في حفظ النفس ، وسلوك لطريق السلامة ، ولعلهم رأوا من أنفسهم فتوراً أو خافوا من الاشتغال به الإقلالَ من تحصيل العلوم" .
انتهى
والله أعلم
تعليق