القصاص يوم القيامة
هل يقتص الكافر المظلوم يوم القيامة من المسلم الظالم له ؟ وهل يقتص الكفار بعضهم من بعض ؟ وهل تقتص البهيمة من الإنسان ؟
الجواب
الحمد لله.
العدل هو ميزان الحكم يوم القيامة ، وقد حرَّم الله الظلم على نفسه وجعله بين
العباد محرما ، وهو يعلم سبحانه أن قيام المظالم كائنٌ ولا شك في الدنيا ، بين
الخلق كلهم : مؤمنهم وكافرهم ، إنسهم وجنهم ، عاقلهم وجاهلهم ، ولذلك رصد لهم يوما
يُقيم فيه الحقوق بموازين الحق والقسط ، فينتصف فيه للمظلوم ، ويعاقب الظالم .
يقول الله عز وجل : ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ
فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ
أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ )
الأنبياء/47
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( يَقْتَصُّ الْخَلْقُ
بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ، حَتَّى الْجَمَّاءُ مِنْ الْقَرْنَاءِ ، وَحَتَّى
الذَّرَّةُ مِنْ الذَّرَّةِ ) رواه أحمد
(2/363) وصححه محققو المسند ، والألباني في "السلسلة الصحيحة" (1967)
فهو قصاص شامل وعام بين جميع الخلائق :
1- يقتص المؤمن المظلوم ممن ظلمه من الخلائق ، مؤمنهم وكافرهم ، إنسهم وجنهم .
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
( إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ
الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ، فَيَتَقَاصُّونَ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي
الدُّنْيَا ، حَتَّى إِذَا نُقُّوا وَهُذِّبُوا أُذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ
) رواه البخاري (2440)
2- ويقتص الكافر المظلوم أيضا ممن ظلمه من الخلائق : فيقتص من الكافر الظالم ،
ويقتص من المسلم الظالم المعتدي ، لعموم حديث أبي هريرة السابق : ( يقتص الخلق
بعضهم من بعض ) .
غير أن المسلم لا يعد ظالما للكافر إذا كان الكافر محاربا معتديا ، أما إذا كان
ذميا أو معاهدا أو مؤتمنا ، فلا يجوز للمسلم أن يظلمه ولا أن يعتدي عليه ، بل جاء
التشديد في أمره في كثير من الآيات والأحاديث ، يقول الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ
لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )
المائدة/8
يقول البيضاوي في "تفسيره" (303) :
" لا يحمِلَنَّكم شدة بُغضكم للمشركين على ترك العدل فيهم ، فتعتدوا عليهم بارتكاب
ما لا يحل ، كمُثلةٍ وقذفٍ وقتلِ نساءٍ وصِبيةٍ ونقضِ عهدٍ ، تشفياً مما في قلوبكم
" انتهى
.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا أَوْ انْتَقَصَهُ أَوْ
كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ
فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )
رواه أبو داود (3052) وحسنه ابن حجر في "موافقة الخبر" (2/184) وصححه الألباني في
"صحيح أبي داود"
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ
رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا
) رواه البخاري (3166)
وعَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ السُّلَمِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُحِلَّ لَكُمْ
أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتَ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا بِإِذْنٍ ، وَلَا ضَرْبَ
نِسَائِهِمْ ، وَلَا أَكْلَ ثِمَارِهِمْ إِذَا أَعْطَوْكُمْ الَّذِي عَلَيْهِمْ )
رواه أبو داود (3050) وصححه الألباني في
"السلسلة الصحيحة" (882)
فهذه النصوص تدل على حرمة الاعتداء على الكافر ، وأن ذلك من الظلم الذي حرمه الله
تعالى ، وللمظلوم حق عنده سبحانه .
ولذلك كان الصحابة والفقهاء يدركون أن حق الذمي محفوظ عند الله عز وجل ، فلا يجترئ
أحد عليه إلا أخذه الله به .
روى القاضي أبو يوسف في "الخراج" (ص/18) أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كتب إلى
عُمَّالِه على الخراج :
" إذا قدمت عليهم فلا تبيعن لهم كسوة ، شتاءً ولا صيفاً ، ولا رزقاً يأكلونه ، ولا
دابة يعملون عليها ، ولا تضربن أحداً منهم سوطاً واحداً في درهم ، ولا تقمه على
رجله في طلب درهم ، ولا تبع لأحد منهم عَرَضاً في شيء من الخراج ، فإنا إنما
أَمَرَنا الله أن نأخذ منهم العفو ، فإن أنت خالفت ما أمرتك به يأخذك الله به دوني
، وإن بلغني عنك خلاف ذلك عزلتُك " انتهى
.
3- وتقتص الدواب بعضُها من بعض : وهي وإن كانت غير مكلفة ، إلا أن قصاصها قصاص
مقابلة واستحقاق ، كي يقام العدل الذي به تقوم السماوات والأرض .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ :
( لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ
لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنْ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ )
رواه مسلم ( 2582 )
والجلحاء : التي لا قرن لها .
وروى أحمد في "المسند" (5/172) وحسنه المحققون ، وكذا الشيخ الألباني في "السلسلة
الصحيحة" تحت حديث رقم (1967) عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه : ( أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ جَالِسًا ، وَشَاتَانِ
تَقْتَرِنَانِ ، فَنَطَحَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى فَأَجْهَضَتْهَا ، قَالَ :
فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقِيلَ لَهُ : مَا
يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : عَجِبْتُ لَهَا ، وَالَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ لَيُقَادَنَّ لَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ . أي لَيُقْتَصَّنَّ لها )
يقول النووي في "شرح مسلم" (16/137) :
" وأما القصاص من القرناء للجلحاء فليس هو من قصاص التكليف ، إذ لا تكليف عليها ،
بل هو قصاص مقابلة " انتهى
.
وجاء في "مرقاة المفاتيح" للشيخ علي القاري (4/761) :
" قال ابن الملك : ... فإن قيل : الشاة غير مكلفة ، فكيف يقتص منها ؟ قلنا : إن
الله تعالى فعال لما يريد ، ولا يسأل عما يفعل ، والغرض منه إعلام العباد أن الحقوق
لا تضيع ، بل يقتص حق المظلوم من الظالم " . قال القاري : " وهو وجه حسن ، وتوجيه
مستحسن ، .. وجملة الأمر أن القضية دالة بطريق المبالغة على كمال العدالة بين كافة
المكلفين ، فإنه إذا كان هذا حال الحيوانات الخارجة عن التكليف ، فكيف بذوي العقول
من الوضيع والشريف ، والقوي والضعيف ؟ "
انتهى .
بل إن الدواب تقتص من بني آدم يوم القيامة :
يقول ابن حجر الهيتمي في "الزواجر" (2/141) :
" فهذا من الدليل على القصاص بين البهائم ، وبينها وبين بني آدم ، حتى الإنسان لو
ضرب دابة بغير حق أو جوَّعها ، أو عطَّشها ، أو كلفها فوق طاقتها فإنها تقتص منه
يوم القيامة بنظير ما ظلمها أو جوَّعها ، ويدل لذلك حديث الهرة ، وفي الصحيح : (
أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى الْمَرْأَةَ مُعَلَّقَةً فِي
النَّارِ وَالْهِرَّةُ تَخْدِشُهَا فِي وَجْهِهَا وَصَدْرِهَا وَتُعَذِّبُهَا كَمَا
عَذَّبَتْهَا فِي الدُّنْيَا بِالْحَبْسِ وَالْجُوعِ ) انظر :
صحيح البخاري (745) ومسند أحمد (2/159)
.
وهذا عام في سائر الحيوانات ... " انتهى
.
وجاء في كتاب "بريقة محمودية" (4/126) لأبي سعيد محمد بن محمد الخادمي :
" ويجتنب كل الجهد من حق الحيوان ؛ لانسداد طرق التحليل والإرضاء في الآخرة والأولى
، فإن الفقهاء قالوا : العذاب فيه متعين ، وأمكن عفوه تعالى في نفسه ، لكن حكم
شريعته يقتضي عدم العفو ، ولذا حكموا بتعيُّنِ العذاب ، وفي قاضي خان : ومن هذا
قالوا : إن خصومة الدابة أشد من خصومة الآدمي على الآدمي "
انتهى
.
وانظر جواب السؤال رقم (21679)
والله أعلم .