منزلة الحكم بما أنزل الله في الإسلام
ما منزلة الحكم بما أنزل الله في الإسلام ؟ وهل يكون الحاكم بغير ما أنزل الله يكون كافراً ؟
الجواب
الحمد لله.
"إن الحكم بما أنزل الله تعالى من توحيد الربوبية ؛ لأنه تنفيذ لحكم الله الذي هو
مقتضى ربوبيته وكمال ملكه وتصرفه ، لهذا سمى الله تعالى المتبوعين في غير ما أنزل
الله تعالى أرباباً لمتبعيهم فقال سبحانه : (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ
وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا
أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ
عَمَّا يُشْرِكُونَ) التوبة/31 ، فسمى الله تعالى المتبوعين
أرباباً حيث جُعلوا مشرِّعين مع الله تعالى ، وسمى المتبعين عباداً حيث إنهم ذلوا
لهم وأطاعوهم في مخالفة حكم الله سبحانه وتعالى .
وقد قال عدي بن حاتم لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنهم لم يعبدوهم ، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم : (بلى ، إنهم حرموا عليهم الحلال ، وأحلوا لهم الحرام ،
فاتبعوهم ، فذلك عبادتهم إياهم) .
إذا فهمت ذلك فاعلم أن من لم يحكم بما أنزل الله وأراد أن يكون التحاكم إلى غير
الله ورسوله وردت فيه آيات بنفي الإيمان وآيات بكفره وظلمه وفسقه .
أما القسم الأول [يعني الآيات التي وردت بنفي الإيمان عنه] :
فمثل قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا
بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا
إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ
أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا
أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ
صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ
ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا
وَتَوْفِيقًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا *
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ
أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ
وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا * فَلَا
وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا
يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)
النساء/60- 65 .
فوصف الله تعالى هؤلاء المدعين للإيمان وهم منافقون بصفات :
الأولى : أنهم يريدون أن يكون التحاكم إلى الطاغوت ؛ وهو كل ما خالف حكم الله تعالى
ورسوله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن من خالف حكم الله ورسوله فهو طغيان واعتداء على
حُكْمِ مَنْ له الحكم وإليه يرجع الأمر كله ، وهو الله ، قال الله تعالى : (أَلَا
لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)
الأعراف/54 .
الثانية : أنهم إذا دُعُوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول صدوا وأعرضوا .
الثالثة : أنهم إذا أصيبوا بمصيبة بما قدمت أيديهم ، ومنها أن يعثر على صنيعهم
جاءوا يحلفون أنهم ما أرادوا إلا الإحسان والتوفيق ، كحال من يرفض اليوم أحكام
الإسلام ويحكم بالقوانين المخالفة لها زعماً منه أن ذلك هو الإحسان الموافق لأحوال
العصر .
ثم حذر سبحانه هؤلاء المدعين للإيمان المتصفين بتلك الصفات بأنه سبحانه يعلم ما في
قلوبهم وما يكنون من أمور تخالف ما يقولون ، وأمر نبيه أن يعظهم ويقول لهم في
أنفسهم قولاً بليغاً . ثم بين الحكمة من إرسال الرسول أن يكون هو المطاع المتبوع لا
غيره من الناس مهما قويت أفكارهم واتسعت مداركهم . ثم أقسم تعالى بربوبيتة لرسوله
التي هي أخص أنواع الربوبية والتي تتضمن الإشارة إلى صحة رسالته صلى الله عليه وسلم
أقسم بها مؤكداً أنه لا يصلح الإيمان إلا بثلاثة أمور :
الأول : أن يكون التحاكم في كل نزاع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الثاني : أن تنشرح الصدور بحكمه ، ولا يكون في النفوس حرج وضيق منه .
الثالث : أن يحصل التسليم التام بقبول ما حكم به وتنفيذه بدون توان أو انحراف .
وأما القسم الثاني [يعني الآيات التي وردت بكفره وظلمه وفسقه] :
فمثل قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ
الْكَافِرُونَ) المائدة/44 ، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا
أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ) المائدة/45
، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ)
المائدة/47 . وهل هذه الأوصاف الثلاثة تتنزل على موصوف واحد
؟ بمعنى أن كل من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر ظالم فاسق ؟ لأن الله تعالى وصف
الكافرين بالظلم والفسق ، فقال تعالى : (وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ)
البقرة/254 ، وقال تعالى : (إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ) التوبة/84 ، فكل
كافر ظالم فاسق ، أو هذه الأوصاف تتنزل على موصوفين بحسب الحامل لهم على عدم الحكم
بما أنزل الله ؟ هذا هو الأقرب عندي ، والله أعلم .
فنقول : من لم يحكم بما أنزل الله استخفافاً به ، أو احتقاراً له ، أو اعتقاداً أن
غيره أصلح ، وأنفع للخلق ، فهو كافر كفراً مخرجاً عن الملة ، ومن هؤلاء من يضعون
للناس تشريعات تخالف التشريعات الإسلامية لتكون منهاجاً يسير الناس عليه ، فإنهم لم
يضعوا تلك التشريعات المخالفة للشريعة الإسلامية إلا وهم يعتقدون أنها أصلح وأنفع
للخلق ، إذ من المعلوم بالضرورة العقلية والجبلة الفطرية أن الإنسان لا يعدل عن
منهاج إلى منهاج يخالفه إلا وهو يعتقد فَضْلَ ما عَدَلَ إليه ، ونَقَصَ ما عدلَ عنه
.
ومن لم يحكم بما أنزل الله وهو لم يستخف به ، ولم يحتقره ، ولم يعتقد أن غيره أصلح
منه ، وأنفع للخلق وإنما حكم بغيره تسلطاً على المحكوم انتقاماً منه لنفسه أو نحو
ذلك ، فهذا ظالم وليس بكافر ، وتختلف مراتب ظلمه بحسب المحكوم به ووسائل الحكم .
ومن لم يحكم بما أنزل الله لا استخفافاً بحكم الله ولا احتقاراً ولا اعتقاداً أن
غيره أصلح وأنفع للخلق وإنما حكم بغيره محاباة للمحكوم له ، أو مراعاة لرشوة أو
غيرها من عَرَض الدنيا ، فهذا فاسق وليس بكافر ، وتختلف مراتب فسقه بحسب المحكوم به
ووسائل الحكم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيمن اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون
الله أنهم على وجهين :
أحدهما : أن يعلموا أنهم يبدلوا دين الله فيتبعونهم على التبديل ، ويعتقدون تحليل
ما حرم وتحريم ما أحل الله اتباعاً لرؤسائهم ، مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل .
فهذا كفر ، وقد جعله الله ورسوله شركاً .
الثاني : أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحليل الحرام وتحريم الحلال – كذا العبارة
المنقولة عنه – ثابتاً ، لكنهم أطاعوهم في معصية الله كما يفعل المسلم ما يفعله من
المعاصي التي يعتقد أنها معاصي ، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب"
انتهى .
فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله .
"فتاوى العقيدة" (ص 208- 212) .