هل من الممكن أن يسمع الأحياء ما يدور للموتى في قبورهم ؟

30-09-2009

السؤال 128322

هل يمكن للأحياء سماع أصوات الموتى في قبورهم ، سواء كانوا معذّبين ، أو منعّمين ؟ لأنّه سمع أنّ هذه القدرة هي المرحلة الأولى لكي يصبح الإنسان من الأولياء الصالحين .

الجواب

الحمد لله.

أولاً:

ينتقل الميت بموته إلى عالم " البرزخ " ، وهو عالَم آخر غير الذي قضى عمره فيه ، وهذا العالَم الغيبي ليس لأحدٍ أن يثبت فيه شيئاً ، أو ينفيه ، إلا بدليل من الكتاب والسنَّة .

وقد جاءت الأحاديث الصحيحة تثبت تكلم " الميت " وهو محمول على الأكتاف لدفنه ، وأيضاً وهو في قبره ، وثبت في تلك الأحاديث وغيرها أن الأحياء لا يسعمون ذلك الكلام الذي قاله الميت ، أما الموضع الأول فقد استثنى النبي صلى الله عليه وسلم " الإنس " من السماع ، وأما الموضع الثاني : فقد استثنى " الإنس والجن " .

أ. الموضع الأول :

عَن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا وُضِعَتْ الْجِنَازَةُ فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ : قَدِّمُونِي قَدِّمُونِي ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ : يَا وَيْلَهَا أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا ، يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الْإِنْسَانَ وَلَوْ سَمِعَهَا الْإِنْسَانُ لَصَعِقَ ) .

رواه البخاري ( 1314 ) .

قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - :

قوله في آخر الحديث ( يسمع صوتها كل شيء ) : دال على أن ذلك بلسان القال ، لا بلسان الحال .

" فتح الباري " ( 3 / 185 ) .

وقال العيني – رحمه الله - :

واستدل بالحديث المذكور على أن كلام الميت يسمعه كل حيوان غير الإنسان .

" عمدة القاري " ( 8 / 114 ) .

وينظر : " شرح رياض الصالحين " ، للشيخ ابن عثيمين رحمه الله ( 4 / 549 ، 550 ) .

ب. الموضع الثاني :

وهو حديث البراء بن عازب المشهور ، وفيه :

فَيَأْتِيهِ آتٍ فَيَقُولُ مَنْ رَبُّكَ مَا دِينُكَ مَنْ نَبِيُّكَ فَيَقُولُ لَا أَدْرِي فَيَقُولُ لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَوْتَ وَيَأْتِيهِ آتٍ قَبِيحُ الْوَجْهِ قَبِيحُ الثِّيَابِ مُنْتِنُ الرِّيحِ فَيَقُولُ أَبْشِرْ بِهَوَانٍ مِنْ اللَّهِ وَعَذَابٍ مُقِيمٍ فَيَقُولُ وَأَنْتَ فَبَشَّرَكَ اللَّهُ بِالشَّرِّ مَنْ أَنْتَ فَيَقُولُ أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ كُنْتَ بَطِيئًا عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ سَرِيعًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَجَزَاكَ اللَّهُ شَرًّا ثُمَّ يُقَيَّضُ لَهُ أَعْمَى أَصَمُّ أَبْكَمُ فِي يَدِهِ مِرْزَبَةٌ لَوْ ضُرِبَ بِهَا جَبَلٌ كَانَ تُرَابًا فَيَضْرِبُهُ ضَرْبَةً حَتَّى يَصِيرَ تُرَابًا ثُمَّ يُعِيدُهُ اللَّهُ كَمَا كَانَ فَيَضْرِبُهُ ضَرْبَةً أُخْرَى فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ النَّارِ وَيُمَهَّدُ مِنْ فُرُشِ النَّارِ .

رواه أحمد ( 30 / 578 ) ، وصححه الألباني في " صحيح الترغيب " ( 3 / 219 ) .

وفي الفرق بين الموضعين ، وعدم سماع الإنس في الأول ، وعدم سماع الإنس والجن في الموضع الثاني غيرهم ، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله – تعليقاً على الحديث الأول - :

وقد استُشكل هذا مع ما ورد في حديث السؤال في القبر ( فيضربه ضربة فيصعق صعقة يسمعه كل شيء إلا الثقلين ) والجامع بينهما : الميت والصعق ، والأول استثنى فيه الإنس فقط ، والثاني استثنى فيه الجن والإنس ؟! والجواب : أن كلام الميت بما ذُكر لا يقتضي وجود الصعق - وهو الفزع - إلا من الآدمي ؛ لكونه لم يألف سماع كلام الميت ، بخلاف الجن في ذلك ، وأما الصيحة التي يصيحها المضروب : فإنها غير مألوفه للإنس والجن جميعاً ؛ لكون سببها عذاب الله ، ولا شيء أشد منه على كل مكلف ، فاشترك فيه الجن ، والإنس .

" فتح الباري " ( 3 / 185 ) .

ولا يستُثنى من الإنس في سماع عذاب القبر إلا النبي صلى الله عليه وسلم .

أ. عن زَيْد بْنِ ثَابِتٍ قَالَ : بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَائِطٍ لِبَنِي النَّجَّارِ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ وَنَحْنُ مَعَهُ إِذْ حَادَتْ بِهِ فَكَادَتْ تُلْقِيهِ وَإِذَا أَقْبُرٌ سِتَّةٌ أَوْ خَمْسَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ فَقَالَ : ( مَنْ يَعْرِفُ أَصْحَابَ هَذِهِ الْأَقْبُرِ ) فَقَالَ رَجُلٌ : أَنَا ، قَالَ : ( فَمَتَى مَاتَ هَؤُلَاءِ ) قَالَ : مَاتُوا فِي الْإِشْرَاكِ ، فَقَالَ : ( إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا فَلَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ ) .

رواه مسلم ( 2868 ) .

ب. عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ : خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ وَجَبَتْ الشَّمْسُ فَسَمِعَ صَوْتًا فَقَالَ : ( يَهُودُ تُعَذَّبُ فِي قُبُورِهَا ) .

رواه البخاري ( 1309 ) ومسلم ( 2769 ) .

وجبت الشمس : غربت .

والحديث رواه ابن حبان ( 7 / 394 ) وبوَّب عليه بقوله : " ذِكر الإخبار بأن المصطفى صلى الله عليه و سلم أسمع أصوات الكفرة حيث عذبت في قبورها " .

وفي عدم سماع الإنسان في كلا الموضعين حكَم جليلة .

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - :

قوله : ( إلا الإنسان ) : يعني : أنه لا يسمع هذا الصياح ، وذلك لحِكَم عظيمة ؛ منها :

أولاً : ما أشار إليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله : ( لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ) .

ثانياً : أن في إخفاء ذلك ستراً للميت   .

ثالثاً : أن فيه عدم إزعاج لأهله ؛ لأن أهله إذا سمعوا ميتهم يعذَّب ويصيح : لم يستقر لهم قرار .

رابعاً : عدم تخجيل أهله ؛ لأن الناس يقولون : هذا ولدكم ! هذا أبوكم ! هذا أخوكم ! وما أشبه ذلك  .

خامساً : أننا قد نهلك ؛ لأنها صيحة ليست هينة ، بل صيحة قد توجب أن تسقط القلوب من معاليقها ، فيموت الإنسان أو يغشى عليه .

سادساً : لو سمع الناس صراخ هؤلاء المعذبين : لكان الإيمان بعذاب القبر من باب الإيمان بالشهادة ، لا من باب الإيمان بالغيب ، وحينئذ تفوت مصلحة الامتحان ؛ لأن الناس سوف يؤمنون بما شاهدوه قطعاً ؛ لكن إذا كان غائباً عنهم ، ولم يعلموا به إلا عن طريق الخبر : صار من باب الإيمان بالغيب  .

" مجموع فتاوى الشيخ العثيمين " ( 8 / 482 ، 483 ) .

ثالثاً:

أما من يزعم أنه يستطيع سماع الأموات في قبورهم ، وأنه يراهم ، ويتحدث معهم : فهو يكذب في ذلك ، أو مُلَبَّس عليه . وإنما يرى الشياطين تتمثل له بصورة الأموات ، أو تخاطبه بأصواتها ، وتلبس عليه ، وهو يلبس على الناس .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :

ولهذا يحصل عند القبور لبعض الناس من خطابٍ يسمعه ، وشخصٍ يراه ، وتصرفٍ عجيب ، ما يظن أنه من الميت ، وقد يكون من الجن والشياطين ، مثل أن يرى القبر قد انشق ، وخرج منه الميت وكلمه وعانقه ، وهذا يُرى عند قبور الأنبياء وغيرهم ، وإنما هو شيطان ؛ فإن الشيطان يتصور بصور الإنس ، ويدَّعي أحدهم أنه النبي فلان ، أو الشيخ فلان ، ويكون كاذباً في ذلك ، وفي هذا الباب من الوقائع ما يضيق هذا الموضع عن ذكره ، وهي كثيرة جدّاً ، والجاهل يظن أن ذلك الذي رآه قد خرج من القبر وعانقه أو كلمه هو المقبور ، أو النبي أو الصالح وغيرهما ، والمؤمن يعلم أنه شيطان ، ويتبين ذلك بأمور :

أحدها : أن يقرأ آية الكرسي بصدق ، فإذا قرأها : تغيب ذلك الشخص ، أو ساخ في الأرض ، أو احتجب ، ولو كان رجلاً صالحاً أو ملَكاً أو جنيّاً مؤمناً : لم تضرَّه آية الكرسي ، وإنما تضر الشياطين ، كما ثبت في الصحيح مِن حديث أبي هريرة لما قال له الجني : اقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ إذَا أَوَيْت إلَى فِرَاشِك فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ عَلَيْك مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ وَلَا يَقْرَبُك شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( صَدَقَك وَهُوَ كَذُوبٌ ) .

ومنها : أن يستعيذ بالله من الشياطين .

ومنها : أن يستعيذ بالعوَذ الشرعية ...

والمقصود هنا : أنَّ مِن أعظم أسباب ضلال المشركين ما يرونه أو يسمعونه عند الأوثان كإخبار عن غائب ، أو أمر يتضمن قضاء حاجة ، ونحو ذلك ، فإذا شاهد أحدهم القبر انشق ، وخرج منه شيخ بهيٌّ : عانقه ، أو كلَّمه : ظنَّ أن ذلك هو النبي المقبور ، أو الشيخ المقبور ، والقبر لم ينشق ؛ وإنما الشيطان مثَّل له ذلك ، كما يمثل لأحدهم أن الحائط انشق ، وأنه خرج منه صورة إنسان ، ويكون هو الشيطان تمثل له في صورة إنسان ، وأراه أنه خرج من الحائط .

" مجموع الفتاوى " ( 1 / 168 – 178 ) باختصار .

والله أعلم

الإيمان باليوم الآخر وأشراط الساعة
عرض في موقع إسلام سؤال وجواب