الحمد لله.
لا شك أن رفع اليدين قبل الركوع وبعده من السنن المؤكدة في الصلاة .
روى البخاري (735) ومسلم (390) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلاةَ ، وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ رَفَعَهُمَا كَذَلِكَ .
وروى البخاري في جزء "رفع اليدين" (ص 8) عن الحسن قال : " كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كأنما أيديهم المراوح يرفعونها إذا ركعوا وإذا رفعوا رؤوسهم " .
وعن حميد بن هلال قال : " كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلوا كأن أيديهم حيال آذانهم المراوح " .
قال البخاري : " فلم يستثن الحسن وحميد بن هلال أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دون أحد " انتهى .
وقد ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ إِلَى أَنَّ رَفْعَ الْيَدَيْنِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ الرَّفْعِ مِنْهُ سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ ، فَيَرْفَعُ يَدَيْهِ إِلَى حَذْوِ مَنْكِبَيْهِ كَفِعْلِهِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ ، لِتَضَافُرِ الأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي ذَلِكَ .
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الأَْوْزَاعِيُّ وَعُلَمَاءُ الْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ .
"الموسوعة الفقهية" (23 / 130)
وإذا كان الأصل في حق المسلم أن يحافظ على هذه السنة الراتبة في أفعال الصلاة ،
فيرفع يديه في هذه المواضع دائما ، كالذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ،
فإن تعارض إشكالية الوالد مع ذلك يوجب بعض التأني في الأمر ؛ وذلك أن بر الوالد ،
وطاعته ـ في غير معصية ـ واجبة ، فينبغي تأليف قلبه ، واستصلاح نفسه ، والتلطف في
تعليمه سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في ذلك ، إن كان جاهلا به ، والنقاش
العلمي الهادئ معه في ذلك ، إن كان عنده إلمام بالمسألة .
وإلى أن يسكت الوالد عنك ، إما باقتناع منه ، وتوفيق من الله له بمعرفة السنة ، واتباعها ، فالذي ننصحك به ألا تغضب والدك ، وألا توصل الأمر بينكما إلى نوع من التحدي والمكابرة والشقاق ، بل عليك بالرفق معه ، واللين في تعليمه ودعوته ، ولو اقتضى الأمر منك ترك هذه السنة في بعض الأوقات التي تصلي فيها في حضور والدك ؛ فتترك الرفع أحيانا ، تأليفا لقلبه ، واستصلاحا لنفسه ، ويرجى لمن ترك المستحب بهذا القصد ، أن يثيبه الله تعالى على ما ترك .
قَالَ الإمَامُ أَحْمَدُ ـ فِي رِوَايَةِ هَارُونَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ـ فِي غُلَامٍ يَصُومُ وَأَبَوَاهُ يَنْهَيَانِهِ عَنْ الصَّوْمِ التَّطَوُّعِ :
" مَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَصُومَ إذَا نَهَيَاهُ ، لَا أُحِبُّ أَنْ يَنْهَاهُ يَعْنِي عَنْ التَّطَوُّعِ " .
وَقَالَ ـ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ ـ فِي رَجُلٍ يَصُومُ التَّطَوُّعَ ، فَسَأَلَهُ أَبَوَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا أَنْ يُفْطِرَ . قَالَ :
" يُرْوَى عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ : يُفْطِرُ وَلَهُ أَجْرُ الْبِرِّ وَأَجْرُ الصَّوْمِ إذَا أَفْطَرَ" .
وَقَالَ ـ فِي رِوَايَةِ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى ـ :
إذَا أَمَرَهُ أَبَوَاهُ أَنْ لَا يُصَلِّيَ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ ؟
قَالَ :
" يُدَارِيهِمَا وَيُصَلِّي " . انتهى .
"الآداب الشرعية" (2/ 37) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"ولو كان الإمام يرى استحباب شيء والمأمومون لا يستحبونه ، فتركه لأجل الاتفاق والائتلاف : كان قد أحسن ... " انتهى .
"مجموع الفتاوى" (22/268) .
وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله :
هل يجوز ترك الجهر بالتأمين في الصلاة ، وعدم رفع اليدين ؟
فأجاب :
" نعم ، إذا كان بين أناس لا يرفعون ، ولا يجهرون بالتأمين : فالأولى أن لا يفعل ؛ تأليفاً لقلوبهم ، حتى يدعوهم إلى الخير ، وحتى يعلمهم ، ويرشدهم ، وحتى يتمكن من الإصلاح بينهم ، فإنه متى خالفهم استنكروا هذا ؛ لأنهم يرون أن هذا هو الدين ، يرون أن عدم رفع اليدين فيما عدا تكبيرة الإحرام ، يرون أنه هو الدين ، وعاشوا عليه مع علمائهم ، وهكذا عدم الجهر بالتأمين ، وهو خلاف مشهور بين أهل العلم ، منهم من قال يجهر ، ومنهم من قال : لا يجهر بالتأمين ، وقد جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم رفع صوته ، وفي بعضها أنه خفض صوته ، وإن كان الصواب أنه يستحب الجهر بالتأمين ، وهو شيء مستحب ، ويكون ترك أمراً مستحبّاً ، فلا يفعل مؤمن مستحبّاً يفضي إلى انشقاق ، وخلاف ، وفتنة ، بل يترك المؤمن المستحب ، والداعي إلى الله عز وجل ، إذا كان يترتب على تركه مصالح أعظم ، من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك هدم الكعبة وبناءها على قواعد إبراهيم ، قال : ( لأن قريشا حديثو عهد بكفر) ، ولهذا تركها على حالها ، ولم يغير عليه الصلاة والسلام للمصلحة العامة " انتهى .
" فتاوى الشيخ ابن باز " ( 29 / 274 ، 275 ) .
والخلاصة :
أن الواجب عليك أن تسعى في استصلاح نفسك أبيك ، والرفق به ، ولو أدى ذلك إلى ترك رفع اليدين في الصلاة ، أو نحو ذلك من ترك بعض المستحبات ، خاصة ما اختلف أهل العلم في استحبابه وعدمه ، فلا بأس بذلك ، وبإمكانه أن يحصل شيئا مما فاته ، برفع اليدين ، وفعل المستحب ، حيث لا يراه الوالد .
والله أعلم