الحمد لله.
أولا :
الشعر كلامه ، حسنه كحسن الكلام ، وقبيحه كقبيحه . هكذا قال الشافعي رحمه الله ، وقد روي مرفوعا ؛ أخرجه الدارقطني من حديث عائشة , وفيه عبد العظيم بن حبيب وهو ضعيف . وينظر : الأم (8/ 420)، التلخيص الحبير (4/ 374) .
ولا حرج في استخدام الخيال والمبالغة ، ما لم يصل به إلى الكذب الصريح .
وقول من قال : أعذب الشعر أكذبه ، محمول على المبالغة التي لا تصل إلى الكذب ، فإن وصل إلى الكذب كان حراما ، وفي كونه أعذب الشعر حينئذ نظر .
قال عبد القاهر الجرجاني رحمه الله في "أسرار البلاغة" ص 240 : " وكيف دار الأمر فإنهم لم يقولوا : " خير الشعر أكذبه " وهم يريدون كلاما غفلا ساذجا يكذب فيه صاحبه ويفرط ، نحو أن يصف الحارس بأوصاف الخليفة ، ويقول للبائس المسكين إنك أمير العراقين ، ولكن ما فيه صنعة يتعمَّل لها ، وتدقيق في المعاني يحتاج معه إلى فطنة لطيفة ، وفهم ثاقب ، وغوص شديد ، والله الموفق للصواب " انتهى .
وقال الدكتور عبد العزيز قاري حفظه الله : " ولما كان الخيال صورة من صور الكذب ،
قيل : إن أعذب الشعر أكذبه . ولكن ليس ذلك على إطلاقه ، فإن العمدة في حسن الشعر
وجودته على صدق الشعور ، وجمال التعبير.. ، وكم من أبيات اعتبرت من عيون الشعر
بينما هي لا تعتمد على أي صورة كاذبة ، وإنما تتجلى بلاغتها في حسن إصابتها للمعنى
الصحيح وحسن صياغتها في تعبير جميل .. ولعل حسان رضي الله عنه كان يعني هذا الميزان
حينما قال:
وإن أشعر بيت أنت قائله بيت يقال إذا أنشدته صدقا
إلا أن الذي غلب على الشعراء المبالغة في الصور البيانية ، إلى حد التخييل الكاذب
الصريح .. وخاصة في مقاصد الوصف والمدح والهجاء ، فتسابقوا إلى الإغراب في ذلك ،
وإلى ابتداع المعاني الموغلة في الاستحالة ، زاعمين أنه بذلك يحلو الشعر ويستعذب..
فمن قائل:
بكت لؤلؤاً رطباً فسالت مدامعي عقيقاً فصار الكل في جيدها عقدا
وقائل:
وجذت رقاب الوصل أسياف هجرها وقدت لرجل البين نعلين من خدي
وقائل:
بح صوت المال مما منك يشكو ويصيح
ولعمري لو كان هذا الميزان صحيحاً إذاً لكان أكثر حسناً وعذوبة في الشعر قول أبي
نواس:
وأخفت أهل الشرك حتى إنه لتخافك النطف التي لم تخلق
أو قول المتنبي:
يترشفن من فمي رشفات هن فيه أحلى من التوحيد
والنقاد يجمعون على استهجان مثل هذا الشعر ، مع أنه أشد إغراقا في الكذب ، فالنطف
التي لم تخلق لا تخاف صاحب أبي نواس ، وربما حتى لو خلقت ، والرشفات من فم المتنبي
حاشا أن تكون أحلى ( من التوحيد ) ... ، فكل هذا مستقبح مستهجن مع أنه من أكذب ما
قيل من الشعر...
ولكن لعلك تستعذب معي مثل قول كثير:
وكنت إذا ما زرت سعدى بأرضها أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها
من الخفرات البيض ود جليسها إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها
أو قول جرير في الفخر:
إذا غضبت عليك بنو تميم حسبت الناس كلهم غضاباً
أو قول المتنبي في مطلع قصيدة:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرم المكارم
أو قول عنترة العبسي:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم
فهل تجد في هذه الأبيات شيئاً من الصور الكاذبة المستحيلة ؟ ومع ذلك فهي من أعذب
الشعر وأجوده ، حتى لقد قيل في قول كثير عزة :
من الخفرات البيض ود جليسها
إنه أرق شعر قيل في النسيب ، ولو تأملت هذا المقام لوجدت أن حسن الشعر يتجلى في
أمرين:
الأمر الأول: صدق المعنى الذي يذكره في البيت ، أو صدق الشعور الذي يعبر عنه.
والأمر الثاني : جمال الصورة التعبيرية التي يختارها لأداء ذلك المعنى وإبراز ذلك
الشعور " انتهى من "مجلة الجامعة الإسلامية" العدد العاشر .
ثانيا :
نص الفقهاء على تحريم الشعر إذ اشتمل على الكذب الصريح .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : " والذي يتحصل من كلام العلماء في حد الشعر الجائز : أنه إذا لم يكثر منه في المسجد ، وخلا عن هجو ، وعن الإغراق في المدح والكذب المحض ، والتغزل بمعينٍ لا يحل . وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على جوازه إذا كان كذلك " انتهى من "فتح الباري" (10/ 539).
وقال زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (4/ 346) : " ( فإن أكثر الكذب فيه ) أي في شعره ( ولم يمكن حمله على المبالغة : ردت شهادته ) ، وإلا فلا كسائر أنواع الكذب ( وإن قصد به إظهار الصفة ، لا إيهام الصدق ) فإن شهادته ترد ، خلافا للقفال والصيدلاني " انتهى.
وقال ابن حجر المكي في "الزواجر عن اقتراف الكبائر" (2/ 355) : " الكبيرة الستون
والحادية والستون بعد الأربعمائة : الإطراء في الشعر بما لم تجر العادة به ، كأن
يجعل الجاهل أو الفاسق مرة عالما أو عدلا ، والتكسب به مع صرف أكثر وقته ،
وبمبالغته في الذم والفحش إذا منع مطلوبه ".
والحاصل :
أن استخدام الخيال ، والصور البيانية ، في عرض المعاني الشعرية : ليس من الكذب ، لكن بحيث لا يفرط فيه حتى يخرجه إلى الكذب المحض ، أو أيهام الصدق .
والله أعلم .