الحمد لله.
ثالثاً:
خلاصة ما ذكره أهل العلم في الجواب عن الإشكال : أن هناك فرقا بين حال الداخلين في
الإسلام وحال المهاجرين ، فمن دخل في دين الله تعالى خالصاً من قلبه معتقداً صحة
الرسالة ، وليس من أجل مالٍ ولا دنيا فهو في مرتبة أعلى ممن دخله من المؤلَّفة
قلوبهم والذين دخلوا فيه طمعاً في المال ، وهذا في الابتداء ، وإلا فقد يَحسن إسلام
هذا الثاني فيصير أعظم منزلة من الأول ، ومثله يقال في المهاجر من بلد الكفر إلى
بلد الإسلام ، فمن كانت هجرته نصرة لدين الله ، وفراراً من بلاد الشرك فهو ليس كمن
هاجر من أجل دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها ، فالأول يحصِّل أجر الهجرة ، وأما الثاني
فإنه وإن جاء بصورة الفعل – وهو مفارقة بلاد الكفار نحو بلاد الإسلام – فإنه ليس له
أجر الهجرة ، بل له ما هاجر من أجله ، وإن كان قد خلط بين نية الهجرة لله ونية
التزوج وإصابة الدنيا : فهو دون الأول بلا شك ، وله من الأجر بقدر ما وقع في قلبه
من نية الهجرة الشرعية .
والذي يظهر لنا أنَّ أبا طلحة رضي الله عنه قد دخل الإسلام رغبة فيه ، وأنه قد جمع
معها الرغبة بالتزوج بأم سليم ، بدليل أنه قد حسن إسلامه فيما بعد وكان من أجلاء
الصحابة ، والذي يظهر لنا – كذلك – أن " مهاجر أم قيس " لم يهاجر إلا بقصد التزوج
فجاء بصورة الفعل دون قصد العبادة ، وليس فعله حراماً ولا تزوجه باطلاً ، لأن
الهجرة ليست العبادات المحضة ، كالصلاة والصيام ونحو ذلك ، وإنما هي بحسب قصد
المهاجر ؛ فمن هاجر لتجارة أو نحوها من المباحات : فهجرته مباحة ، ومن هاجر لقربة :
فهجرته طاعة وقربة ، ومن هاجر لمحرم : فهجرته محرمة . وإن خلط في هجرته بين قصد
المباح ، وقصد القربة والطاعة ، فهو بحسب ما غلب على قصده ونيته .
قال ابن حجر – رحمه الله - : " وقال الكرماني : يحتمل أن يكون قوله ( إلى ما هاجر
إليه ) متعلقاً بالهجرة فيكون الخبر محذوفاً والتقدير : قبيحة ، أو : غير صحيحة -
مثلاً - ويحتمل أن يكون خبره ( فهجرته ) والجملة خبر المبتدأ الذي هو ( من كانت ) "
. انتهى .
وهذا الثاني هو الراجح ؛ لأن الأول يقتضي أن تلك الهجرة مذمومة مطلقاً ، وليس كذلك
؛ إلا أن حمل على تقدير شيء يقتضي التردد أو القصور عن الهجرة الخالصة كمن نوى
بهجرته مفارقة دار الكفر وتزوج المرأة معا ، فلا تكون قبيحة ولا غير صحيحة ، بل هي
ناقصة بالنسبة إلى من كانت هجرته خالصة ، وإنما أشعر السياق بذم من فعل ذلك بالنسبة
إلى من طلب المرأة بصورة الهجرة الخالصة ، فأما من طلبها مضمومة إلى الهجرة فإنه
يثاب على قصد الهجرة ، لكن دون ثواب من أخلص ، وكذا من طلب التزويج فقط لا على صورة
الهجرة إلى الله لأنه من الأمر المباح الذي قد يثاب فاعله إذا قصد به القربة
كالإعفاف ، ومن أمثلة ذلك ما وقع في قصة إسلام أبي طلحة فيما رواه النسائي عن أنس
قال : " تزوج أبو طلحة أم سليم فكان صداق ما بينهما الإسلام أسلمت أم سليم قبل أبي
طلحة فخطبها ، فقالت : إني قد أسلمت فإن أسلمت تزوجتك ، فأسلم فتزوجته . وهو محمول
على أنه رغب في الإسلام ودخله من وجهة ، وضم إلى ذلك إرادة التزويج المباح " انتهى
من " فتح الباري " ( 1 / 17 ) .
وقال النووي – رحمه الله - : " قوله صلى الله عليه وسلم ( فمن كان هجرته إلى الله
ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ) معناه : من قصد بهجرته وجه الله : وقع أجره على
الله ، ومن قصد بها دنيا أو امرأة : فهي حظه ولا نصيب له في الآخرة بسبب هذه الهجرة
" انتهى من " شرح مسلم " ( 13 / 54 ، 55 ) .
والله أعلم