الحمد لله.
ثم إن هذا الإيراد ليس خاصا بصفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، بل هو
عام في كل ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم ، مما لا يوجد بنصه في القرآن الكريم
، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم وجه الجواب عن تلك الشبهة الباطلة :
روى أبو داود (4604) عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ
الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ ؛ أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ
يَقُولُ عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ
فَأَحِلُّوهُ ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ ؛ أَلَا لَا
يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ وَلَا كُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ
السَّبُعِ ، وَلَا لُقَطَةُ مُعَاهِدٍ إِلَّا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا صَاحِبُهَا
، وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُ فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُ
فَلَهُ أَنْ يُعْقِبَهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُ ) . صححه الألباني في " صحيح الجامع "
(2643) .
ويمكنك بعد هذا أن يزداد تأملك لقوله تعالى : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )
النحل/ 44 .
ثالثاً:
وأما الإيراد الذي أوردته في الصلاة على إبراهيم عليه السلام : فهو إيراد قديم
معروف ، وقد قال ابن العربي المالكي رحمه الله : " قوله : كما صليت على إبراهيم :
وهي مشكلة جدا ، لأن محمدا أفضل من إبراهيم ، فكيف يكون أفضل منه ، ثم يطلب له أن
يبلغ رتبته ؟ وفي ذلك تأويلات كثيرة أمهاتها عشرة - وذكرها كلها - " انتهى من "
أحكام القرآن " ( 3 / 624 ) .
وقد اختار الحافظ ابن حجر رحمه الله أن الكاف في قوله " كما صليتَ " للتشبيه ،
لكن ليس من شرط التشبيه أن يكون المشبَّه به أقوى ، حيث قال : " قوله ( كما صليت
على آل إبراهيم ) أي : تقدمت منك الصلاة على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، فنسأل منك
الصلاة على محمد وعلى آل محمد بطريق الأولى ؛ لأن الذي يثبت للفاضل يثبت للأفضل
بطريق الأولى ، وبهذا يحصل الانفصال عن الإيراد المشهور من أن شرط التشبيه أن يكون
المشبه به أقوى .
ومحصل الجواب : أن التشبيه ليس من باب إلحاق الكامل بالأكمل ، بل من باب التهييج
ونحوه ، أو من بيان حال ما لا يعرف بما يعرف ، لأنه فيما يستقبل ، والذي يحصل لمحمد
صلى الله عليه و سلم من ذلك أقوى وأكمل " انتهى من " فتح الباري " ( 8 / 534 ) .
وقد رجح الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله أن الكاف للتعليل لا للتشبيه ،
قال – رحمه الله - : " وقال بعض العلماء : إنها للتعليل – أي : الكاف - وأنَّ هذا
مِن باب التوسُّل بفعل الله السابق لتحقيق الفعل اللاحق ، يعني : كما أنك سبحانك
سَبَقَ الفضلُ منك على آل إبراهيم ، فألْحِقِ الفضلَ منك على محمد وآله ، وهذا لا
يلزم أن يكون هناك مشبَّه ومشبَّه به .
فإن قال قائل : وهل تأتي الكاف للتعليل ؟ .
قلنا : نعم ، تأتي للتعليل ، استمعْ إليها من كلام العلماء ، واستمعْ إلى مثالها .
قال ابن مالك :
شَبِّه بكافٍ وبها التَّعليل قد يُعنى وزائداً لتوكيد وَرَدْ
فأفاد بقوله : " وبها التعليل قد يُعنى " أنه قد يُقصد بها التعليل .
وأمّا المثال فكقوله تعالى :( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو
عَلَيْكُمْ ) البقرة/ 151 ، فإن الكاف هنا للتعليل لما سبق ، وكقوله تعالى (
وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ) البقرة/ 198 أي : لهدايتكم ، وإن كان يجوز فيها
التشبيه ، يعني : واذكروه الذِّكرَ الذي هداكم إليه .
فهذا القول – أعني : أنَّ الكاف في قوله " كما صَلَّيت " للتعليل - من باب التوسل
بالفعل السابق إلى تحقيق اللاحق هو القول الأصحُّ الذي لا يَرِدُ عليه إشكال "
انتهى من " الشرح الممتع على زاد المستقنع " ( 3 / 165 ، 166 ) .
والله أعلم