الحمد لله.
ثانيا :
لما توفي علي رضي الله عنه وصلى عليه ابنه الحسن رضي الله عنه بايعه الناس بالخلافة
، ثم ألحوا عليه في النفير لقتال أهل الشام ، ولم يكن من نيته أن يقاتل أحدا ، ولكن
غلبوه على رأيه ، فاجتمعوا اجتماعا عظيما لم يسمع بمثله ، وسار بالجيوش قاصدا بلاد
الشام ، ثم حصل في الجيش فتنة واختلاف وتفرق ، فلما رأى الحسن بن علي تفرق جيشه
عليه مقتهم ، وكتب عند ذلك إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما يراوضه على
الصلح بينهما ، فبعث إليه معاوية عبد الله بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة ، وتم الصلح
، وبايع لمعاوية بالخلافة ، وتنازل له عنها ، وكان ذلك سنة أربعين من الهجرة ،
ولهذا يقال له عام الجماعة ؛ لاجتماع الكلمة فيه على معاوية .
وقد مدحه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صنيعه هذا وهو تركه الإمارة وطلبها ،
وحقنه لدماء المسلمين ، رغبة فيما عند الله ؛ فنزل عن الخلافة وجعل الملك بيد
معاوية حتى تجتمع الكلمة على أمير واحد .
روى البخاري (2704) عن أبي بَكْرَةَ قال : " رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى
جَنْبِهِ ، وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً وَعَلَيْهِ أُخْرَى وَيَقُولُ :
( إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ
فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ) .
ولما تسلم معاوية البلاد
ودخل الكوفة وخطب بها ، واجتمعت عليه الكلمة في سائر الأقاليم والآفاق ، ترحل الحسن
بن علي ومعه أخوه الحسين وبقية إخوتهم وابن عمهم عبد الله بن جعفر من أرض العراق
إلى أرض المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام .
فلما احتضر معاوية دعا يزيد فأوصاه بما أوصاه به ، وبايع الناسُ يزيد ، وفيهم كثير
من الصحابة ، منهم ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم ، وامتنع الحسين بن علي وعبد
الله بن الزبير رضي الله عنهم عن مبايعته .
انظر : "البداية والنهاية" (8/16-21) ، (8/175) .
وقال ابن بطال رحمه الله :
" سلّم الحسن الأمر إلى معاوية وصالحه وبايعه على السمع والطاعة على إقامة كتاب
الله وسنة نبيه ، ثم دخلا الكوفة فأخذ معاوية البيعة لنفسه على أهل العراقين ،
فكانت تلك السنة سنة الجماعة لاجتماع الناس واتفاقهم وانقطاع الحرب ، وبايع معاوية
كلُّ من كان معتزلا عنه ، وبايعه سعد بن أبى وقاص وعبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة
، وتباشر الناس بذلك ، وأجاز معاوية الحسن بن على بثلاثمائة ألف ، وألف ثوب ،
وثلاثين عبدا ، ومائة جمل ، وانصرف الحسن بن على إلى المدينة ، وولى معاوية الكوفة
المغيرة بن شعبة ، وولى البصرة عبد الله بن عامر ، وانصرف إلى دمشق واتخذها دار
مملكته "انتهى من "شرح صحيح البخارى" (8/ 97) .
ثالثا :
ذكر أهل العلم أن الحسن بن علي اشترط على معاوية أن لا يعهد لأحد من بعده بالخلافة
، إنما يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين .
قال ابن حجر الهيتمي رحمه الله :
" ولما تصالحا كتب به الحسن كتابا لمعاوية صورته :
بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما صالح عليه الحسن بن علي رضي الله عنهما معاوية بن
أبي سفيان :
صالحه على أن يسلم إليه ولاية المسلمين ، على أن يعمل فيهم بكتاب الله تعالى وسنة
رسول الله ، وسيرة الخلفاء الراشدين المهديين ، وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد
إلى أحد من بعده عهدا ، بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين ، وعلى أن الناس
آمنون حيث كانوا من أرض الله تعالى ، في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم ، وعلى أن
أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم حيث كانوا ، وعلى
معاوية بن أبي سفيان بذلك عهد الله وميثاقه ، وأن لا يبتغي للحسن بن علي ولا لأخيه
الحسين ولا لأحد من أهل بيت رسول الله غائلة سرا ولا جهرا ، ولا يخيف أحدا منهم في
أفق من الآفاق .
أشهد عليه فلان ، وفلان بن فلان ، وكفى بالله شهيدا
ولما انبرم الصلح التمس معاوية من الحسن أن يتكلم بجمع من الناس ، ويعلمهم أنه قد
بايع معاوية وسلم إليه الأمر ، فأجابه إلى ذلك " .
انتهى من "الصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة" (2 /399) .
وانظر كتاب : "الحسن بن علي رضي الله عنه" للدكتور الصلابي (ص 253) .
رابعا :
لما رأى معاوية رضي الله عنه ما عليه الناس من الاختلاف والاضطراب وما هم فيه من
الفتنة ، خشي عليهم من بعده تفاقم الحال ، ومزيد الخلاف والاضطراب ، فرأى أن
المصلحة في أخذ البيعة لابنه يزيد من بعده ؛ فشاور كبار الصحابة وسادات القوم وولاة
الأمصار ، فجاءت الموافقة منهم ، وجاءته الوفود بالموافقة على بيعة يزيد ، وبايعه
الكثير من الصحابة ؛ حتى قال الحافظ عبد الغني المقدسي " خلافته صحيحة ، بايعه ستون
من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ابن عمر " وقد ثبت في صحيح البخاري
(7111) أن ابن عمر بايع يزيد ؛ فعَنْ نَافِعٍ قَالَ : " لَمَّا خَلَعَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ حَشَمَهُ وَوَلَدَهُ
فَقَالَ : " إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ
: ( يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) وَإِنَّا قَدْ
بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَإِنِّي لَا
أَعْلَمُ غَدْرًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُبَايَعَ رَجُلٌ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ ، ثُمَّ يُنْصَبُ لَهُ الْقِتَالُ ، وَإِنِّي لَا أَعْلَمُ أَحَدًا
مِنْكُمْ خَلَعَهُ وَلَا بَايَعَ فِي هَذَا الْأَمْرِ إِلَّا كَانَتْ الْفَيْصَلَ
بَيْنِي وَبَيْنَهُ "
ولعل السبب الذي دفع معاوية لأخذ البيعة ليزيد، أنه رأى أن يمنع الخلاف ، ويجمع
الكلمة في هذه المرحلة الحرجة التي تعيشها الأمة ، مع نظره لكثرة المطالبين
بالخلافة ، فرأى رضي الله عنه أن في توليته ليزيد صلاحا للأمة ، وقطعاً لدابر
الفتنة باتفاق أهل الحل والعقد عليه .
ينظر : "المفصل في الرد على شبهات أعداء الإسلام" (13 /228) .
وقال ابن خلدون رحمه الله :
" والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون من سواه إنما هو مراعاة المصلحة في
اجتماع الناس ، واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه حينئذ من بني أمية ، إذ
بنو أمية يومئذ لا يرضون سواهم ، وهم عصابة قريش وأهل الملة أجمع ، وأهل الغلب منهم
، فآثره بذلك دون غيره ممن يظن أنه أولى بها، وعدل عن الفاضل إلى المفضول حرصاً على
الاتفاق واجتماع الأهواء الذي شأنه أهم عند الشارع ، وإن كان لا يظن بمعاوية غير
هذا ، فعدالته وصحبته مانعة من سوى ذلك .
وحضور أكابر الصحابة لذلك ، وسكوتهم عنه : دليل على انتفاء الريب فيه ، فليسوا ممن
يأخذهم في الحق هوادة ، وليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق ، فإنهم كلهم أجل
من ذلك ، وعدالتهم مانعة منه " انتهى من "مقدمة ابن خلدون" (ص 109) .
وقال أيضا :
" عهد معاوية إلى يزيد خوفاً من افتراق الكلمة " انتهى من "مقدمة ابن خلدون" (ص
106) .
وقال محب الدين الخطيب رحمه الله في تعليقه على "العواصم من القواصم" (ص229) :
" عدل عن الوجه الأفضل لما كان يتوجس من الفتن والمجازر إذا جعلها شورى ، وقد رأى
القوة والطاعة والنظام والاستقرار في الجانب الذي فيه ابنه " انتهى .
والحاصل أن معاوية رضي الله عنه قد فعل في ذلك ما يراه الأصلح لحال الأمة وقت اختلافها وحصول الاضطراب في صفوفها ، ورأى أن تحصيل مقام الاجتماع ودرء الفتنة ، أولى من الوفاء بالشرط الذي شرطه عليه الحسن ، رضي الله عنه ، عند تنازله عن طلب الخلافة ، وبيعته له ؛ وقد جاءت الشريعة بتحصيل المصالح وتكميلها ، وتعطيل المفاسد وتقليلها .
ثم إن غاية ما يقال في هذا الأمر : أن معاوية رضي الله عنه ، وهو خليفة المسلمين ، اجتهد في هذه النازلة ؛ فإن كان قد أصاب فيه : فله أجران ، وإن كان قد أخطأ ، فله أجر واحد ، إن شاء الله ، وما وقع له في ذلك أو في غيره من نقص أو قصور أو تقصير ، فهو في محل العفو من الرحمن الرحيم ، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، أولى الناس بمقام العذر والعفو من الله جل جلاله .
والله تعالى أعلم .