شرح الحديث الشريف ( اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا عنه )
ما معنى الحديث : ( اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم ، فإذا اختلفتم فقوموا عنه ) .
فأنا أحاول أن أداوم على ختم القرآن كل أسبوع حفظا ، أو من المصحف ، أو في الصلاة ، وقد يتراكم علي الورد فأقرأ بسرعة لكي أتدارك ما فاتني ؛ لأني عندما أتأخر في الورد أحس بنقص في الإيمان ، وقد أحس أحيانا بنفور .
فهل ما أفعله صحيح ؟
الجواب
الحمد لله.
بداية هنيئا لك هذه الهمة العالية ، وهذا الحرص على تلاوة كتاب الله تعالى ، فتلك
من نعم الله تعالى على الخاصة من عباده ، يغبطهم عليها الناس ، كما قال عليه الصلاة
والسلام : ( لاَ حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ : رَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ
القُرْآنَ ، فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ ، وَآنَاءَ النَّهَارِ ، فَسَمِعَهُ
جَارٌ لَهُ ، فَقَالَ : لَيْتَنِي أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ فُلاَنٌ ،
فَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ
يُهْلِكُهُ فِي الحَقِّ ، فَقَالَ رَجُلٌ : لَيْتَنِي أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ
فُلاَنٌ ، فَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ ) رواه البخاري (5026)
ويقول الله عز وجل : ( إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا
الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ
تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ . لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ
إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ) فاطر/29-30.
وأخذك نفسك بالالتزام بورد معين لا تنقطع عنه مهما كانت الظروف هو من خير الأسباب
المعينة على العبادة ، وعلى التعلق بكلام الله عز وجل ، وقد كان الصالحون من قبل
يحرصون على أورادهم اليومية ، لا يفارقونها مهما طرأت الشواغل ، ولو أدى ذلك إلى
التعجل شيئا ما في القراءة والتلاوة لتدارك ما فات ، فالتلاوة من أفضل العبادات ،
سواء كانت بتأن وتدبر ، أم كانت باستعجال وتقليب نظر ، فعن ابن شوذب قال : " كان
عروة يقرأ ربع القرآن في كل يوم نظرا في المصحف ، ويقوم به بالليل ، فما تركه إلا
ليلة قطعت رجله ، ثم عاوده من الليلة المقبلة " رواه البيهقي في " شعب الإيمان "
(3/513) .
لكن لا شك أن مزيد الأجر متعلق بمزيد التدبر والتفكر ، إلا أنه يمكن الاكتفاء
بالتلاوة مع قدر من الاستعجال في بعض الأيام لتحقيق مصلحة الالتزام بالعبادة
والمواظبة على الورد ، كما قال الإمام النووي رحمه الله : " من كان يظهر له بدقيق
الفكر لطائف ومعارف فليقتصر على قدر ما يحصل له كمال فهم ما يقرؤه ، وكذا من كان
مشغولا بنشر العلم ، أو غيره من مهمات الدين ومصالح المسلمين العامة ، فليقتصر على
قدر لا يحصل بسببه إخلال بما هو مرصد له ، وإن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليستكثر
ما أمكنه من غير خروج إلى حد الملل والهذرمة " انتهى من " التبيان في آداب حملة
القرآن " (ص/61)
أما الحديث الشريف الذي أشكل عليك ، وهو حديث جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( اقْرَءُوا القُرْآنَ مَا
ائْتَلَفَتْ قُلُوبُكُمْ ، فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا عَنْهُ ) رواه البخاري
(5060) ومسلم (2667) .
فلا تعلق له بما سبق ، وإنما يتحدث عن اختلاف قلوب الناس وتنازعهم وتفرقهم بسبب
تناقض أفهامهم للثوابت من أركان الدين وضرورياته ، أو بسبب جهلهم بالقراءات الثابتة
عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما كانت مصلحة الوحدة والتآلف أعظم من مصلحة
التلاوة المجردة كان الأولى تقديم المصلحة العليا على ما دونها من المستحبات .
قال ابن الجوزي رحمه الله :
" كان اختلاف الصحابة يقع في القراءات واللغات ، فأمروا بالقيام عند الاختلاف لئلا
يجحد أحدهم ما يقرأ الآخر فيكون جاحدا لما أنزله الله عز وجل " .
انتهى من "كشف المشكل من حديث الصحيحين (2/47)" .
وقال الإمام النووي رحمه الله :
" الأمر بالقيام عند الاختلاف في القرآن محمول عند العلماء على اختلاف لا يجوز ، أو
اختلاف يوقع فيما لا يجوز ، كاختلاف في نفس القرآن ، أو في معنى منه لا يسوغ فيه
الاجتهاد ، أو اختلاف يوقع في شك أو شبهة أو فتنة وخصومة أو شجار ونحو ذلك .
وأما الاختلاف في استنباط فروع الدين منه ، ومناظرة أهل العلم في ذلك على سبيل
الفائدة وإظهار الحق ، واختلافهم في ذلك ، فليس منهيا عنه ، بل هو مأمور به ،
وفضيلة ظاهرة ، وقد أجمع المسلمون على هذا من عهد الصحابة إلى الآن " انتهى من "
شرح مسلم " (16/218-219) .
وقال ابن بطال رحمه الله في شرح هذا الحديث :
" فيه الحض على الألفة والتحذير من الفرقة في الدين ، فكأنه قال : اقرءوا القرآن
والزموا الائتلاف على ما دل عليه وقاد إليه ، فإذا اختلفتم فقوموا عنه ، أي فإذا
عرض عارض شبهة توجب المنازعة الداعية إلى الفرقة فقوموا عنه ، أي فاتركوا تلك
الشبهة الداعية إلى الفرقة ، وارجعوا إلى المحكم الموجب للألفة ، وقوموا للاختلاف
وعما أدى إليه ، وقاد إليه ، لا أنه أمر بترك قراءة القرآن باختلاف القراءات التي
أباحها لهم ؛ لأنه قال لابن مسعود والرجل الذي أنكر عليه مخالفته له في القراءة : (
كلاكما محسن ) ، فدل أنه لم ينهه عما جعله فيه محسنًا ، وإنما نهاه عن الاختلاف
المؤدي إلى الهلاك بالفرقة في الدين " .
انتهى من " شرح صحيح البخاري " (10/285) .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" قوله ( فإذا اختلفتم ) أي : في فهم معانيه ( فقوموا عنه ) أي : تفرقوا ؛ لئلا
يتمادى بكم الاختلاف إلى الشر .
قال عياض : يحتمل أن يكون النهي خاصا بزمنه صلى الله عليه وسلم ؛ لئلا يكون ذلك
سببا لنزول ما يسوؤهم ، كما في قوله تعالى : ( لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم
).
ويحتمل أن يكون المعنى : اقرءوا والزموا الائتلاف على ما دل عليه وقاد إليه ، فإذا
وقع الاختلاف ، أو عرض عارض شبهة يقتضي المنازعة الداعية إلى الافتراق : فاتركوا
القراءة ، وتمسكوا بالمحكم الموجب للألفة ، وأعرضوا عن المتشابه المؤدي إلى الفرقة
. وهو كقوله صلى الله عليه وسلم : ( فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فاحذروهم
).
ويحتمل أنه ينهى عن القراءة إذا وقع الاختلاف في كيفية الأداء ، بأن يتفرقوا عند
الاختلاف ويستمر كل منهم على قراءته ، ومثله ما تقدم عن ابن مسعود لما وقع بينه
وبين الصحابيين الآخرين الاختلاف في الأداء فترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فقال : ( كلكم محسن ) وبهذه النكتة تظهر الحكمة في ذكر حديث ابن مسعود عقيب حديث
جندب ".
انتهى من " فتح الباري " (9/101) .
والله أعلم .