الحمد لله.
نحب أن نسجل في بداية الجواب هنا الانطباع الإيجابي الذي يشعر به كل مسلم يقرأ
سؤالك ، ويقف على ما فيه من حرص على معرفة الحكم الشرعي رغم الاغتراب الهائل الذي
تعيشينه في عملك ومجتمعك ، فيتصور القارئ كم هي بعيدة السماء التي ترحلين بين
جنباتها ، والقارات العظيمة التي تتنقلين بينها ، وكم هي المغريات والفتن التي
تتعرضين لها ، في بيئة لا تعرف شيئا من معاني الالتزام بالشريعة والعبودية الصادقة
لله رب العالمين ، ولا ترى في الدنيا سوى ملذاتها ومتعها ، وأنت في كل ذلك لا رقيب
عليك سوى رب العباد الذي بيده ملكوت كل شيء ، وهو معكم أينما كنتم معية علم وتدبير
، ورغم ذلك كله تحرصين على توجيه السؤال لجهة بحثية شرعية لتتعرفي على الحكم الشرعي
في ذلك .
فالحمد لله أولا وآخرا أن الحس نحو الحلال والحرام بلغ أكباد السماء وآفاق الأرض ،
وأن الناس – مهما ابتعدوا في حياتهم عن مجتمعاتهم الإسلامية – فإن نور التوحيد شعلة
باقية بإذن الله في قلوبهم وعقولهم ، لا بد أن يتاح لها يوم ، لتسطع فيه من جديد .
وأمَا إذ صدقتِنا في شرح أحوال عملك وظروفه ، كما صدقت أيضا في توضيح قصدك من سؤالك
وما يمكن أن تتقبلي الالتزام به من الجواب ، فنحن نصدقك القول والنصح أيضا ، ولن
نستعمل سوى اللغة الشرعية المحضة التي توضح لك الموقف الشرعي بعيدا عن اعتبارات
أخرى قد تكون محل خلاف ونظر .
وتوضيح ذلك أنك سلمت في السؤال بتحريم عمل المسلم في تقديم الخمور والخنزير
والمحرمات للناس ، سواء مسلمين أم غير مسلمين ، كما سلمت بحرمة عمل المسلمة بلباس
غير ساتر ، بل العمل في العادة في مثل هذه الأماكن يكون بلباس متبرج ، ولكنك تجاوزت
ذلك بجملة واحدة حين قلت إنك لم تعودي تمارسين ذلك بنفسك ، بل انتقلت إلى دور
الإشراف والمراقبة والمحاسبة ! فكيف ترين نفسك سلمت من الآفات السابقة ؟!
ألا ترين معنا أن المشرف على المخالفة شريك في المسؤولية أيضا ؟! أرأيت لو أن أحدهم
أنكر مسؤولية المشرف في مجالات الحياة الأخرى ، وقال على سبيل المثال إن مدرب فريق
كرة القدم لا يتحمل المسؤولية نتيجة إخفاق فريقه أو نجاحه ، هل يتقبل عاقل منه ذلك
الكلام ؟! كيف والمشرف هو المعين والمحاسب والذي يتابع العملية بكامل تفاصيلها ،
فلا بد أنه شريك في تبعة ذلك إيجابا أو سلبا .
وهكذا هو أيضا الحكم الشرعي في الإشراف على المحرمات ، فلا شك أنه عمل محرم أيضا ،
فالله عز وجل يقول : ( وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ
تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ
شَدِيدُ الْعِقَابِ ) المائدة/2 ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( لَعَنَ اللَّهُ
الْخَمْرَ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَعَاصِرَهَا
وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ ) رواه أبو داود (3674)
وصححه الألباني في صحيح أبي داود .
وفي الوقت نفسه ؛ فإن الاختلاط الفاحش الذي تتعرض له المضيفة أو المشرفة في الطائرة
، واللباس المخالف الذي تلتزم به مع شركتها ، وتعرضها للخلوة بالرجال والانقطاع
معهم لظروف العمل ونحو ذلك من الأمور : هي الخطر الأكبر في عملك ، الذي يجب أن
تلتفتي إليه وتنشغلي بأمره .
وأما اختزال الموضوع في إشكالية " السفر بغير محرم "، واختلاف الأحوال اليوم عن
أحوال السفر القديمة : فذلك من تلبيس الشيطان الذي يسعى في صرفك عن المحرمات
الواضحات إلى شيء من الشبهات .
يقول ابن تيمية رحمه الله :
" إذا أعان الرجلُ على معصية الله كان آثما ؛ لأنه أعان على الإثم والعدوان ، ولهذا
لعن النبي صلى الله عليه وسلم الخمر ، وعاصرها ، ومعتصرها ، وحاملها ، والمحمولة
إليه ، وبائعها ، ومشتريها ، وساقيها ، وشاربها ، وآكل ثمنها .
وأكثر هؤلاء - كالعاصر والحامل والساقي - إنما هم يعاونون على شربها ، ولهذا ينهى
عن بيع السلاح لمن يقاتل به قتالا محرما : كقتال المسلمين ، والقتال في الفتنة ،
ومن أخذ عِوضًا عن عين محرمة ، أو نفع استوفاه ، مثل أجرة حَمَّال الخمر ، وأجرة
صانع الصليب ، وأجرة البغي ، ونحو ذلك ، فليتصدق بها ، وليتب من ذلك العمل المحرم ،
وتكون صدقته بالعِوَض كفارة لما فعله ؛ فإن هذا العوض لا يجوز الانتفاع به ؛ لأنه
عوض خبيث ، ولا يعاد إلى صاحبه ؛ لأنه قد استوفى العوض ، ويتصدق به ، كما نص على
ذلك مَن نَصَّ من العلماء ، كما نَصَّ عليه الإمام أحمد في مثل حامل الخمر ، ونص
عليه أصحاب مالك وغيرهم " .
انتهى . " مجموع الفتاوى " ( 22 / 141 - 142 ) .
ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله :
" مما تقدم من الأدلة يعلم تحريم توظيف المرأة في المجالات التي تخالط فيها الرجال
، وتدعو إلى بروزها ، والإخلال بكرامتها ، والإسفار عن بعض محاسنها : مثل كونها
مضيفة في الطائرة " انتهى من " مجموع فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم "
(10/250).
وانظري في موقعنا الفتوى رقم : (159104)
.
ومن هنا : ندعوك إلى مراجعة كتابتك ، والتأمل في " عمل
الأحلام " كما أسميته في سؤالك ، فهي حقيقة أحلام ، أحلام الدنيا الزائلة ، التي
ستفنى ونفنى معها ، وتبقى أعمالنا بعدها في صحائفنا محفوظة علينا ، وهناك نقف بين
يدي ربنا سبحانه وتعالى ، ولا ندري هل يعاملنا بعفوه ورحمته وكرمه ، أم بعدله
وجزائه ، وحينئذ ستكون كل المتع التي صحبتها المعصية أسباب الحسرة والندامة
الحقيقية ، يقول الله عز وجل : ( وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي
الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ
وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ) يونس/54.
ثم اعلمي – أختنا السائلة – أن أبواب السعادة في الدنيا كثيرة ، ولكنها كلها أبواب
مقفلة ، لا تفتحها إلا السعادة القلبية المحصورة في رضوان الله عز وجل ، وحبه ، وحب
كل شيء يقرب إلى حبه ، فإذا ملكت هذا المفتاح فلا يضرك من أي باب دخلت حينئذ ، ولكن
تأكدي أن مفتاح محبة الله سبحانه لن يفتح لك أبوابا تشاركين فيها في تقديم كبائر
الذنوب للناس ، سواء من جهة اللباس أم الأطعمة والأشربة المحرمة أم الاختلاط الفاحش
، ولو تأملت فيمن حولك من الناس لوجدت كثيرا منهم من السعداء حقيقة ، رغم اجتنابهم
مثل تلك المعاصي والمحرمات ، وقد يسر الله لهم من الأعمال الرائعة الممتعة ،
والحياة الأسرية الهانئة ، والمال الحلال الطيب ما يسعدهم ويرضيهم ، وفي الوقت نفسه
لا يعصون الله ما أمرهم ، وهمهم الأول والأخير هو السعادة الأخروية في جنة عرضها
السماوات والأرض .
هي دعوة للمراجعة والمحاسبة ، والتأمل في الحاضر والمستقبل ، فإذا توفرت العزيمة
الصادقة والنية الصالحة في طلب العمل المباح ، أوشك الله أن يمن عليك برزق عاجل ،
أو آجل ، يعوضك خيرا مما فاتك ؛ قال الله تعالى : ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ
يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ
يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ
جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ) الطلاق/2-3 .
والله أعلم .