الحمد لله.
النظر إلى النساء من آفات العين المهلكة ، وهي من أخطر العادات السيئة ، تكمن
خطورتها في سهولتها وانتشارها ، الأمر الذي يؤدي إلى اعتيادها ، وتجاوزها رقابة
الوازع الشرعي ، فتتراكم آثارها مع تعاقب الأزمان ، وتؤدي بصاحبها إلى المهالك
الخطيرة ، مثل استحلال المعصية ، وتشرب القلب لها ومحبتها ، فلا ينكر ما حرمه الله
، ولا يفر من غضب الله ، ولا تعود للقلب حياته ، وتنطفئ أنوار الاستقامة فيه ، حتى
يلتبس عليه الحق بالباطل . ومن استوت عنده معصية النظر ، بطاعة العفة وغض البصر :
حري به أن يستوي لديه الهداية والضلال ، ولو بعد حين .
وما نرى صديقك الذي تسأل عن حاله إلا قد ابتلي بزنا العين الذي ينفذ إلى القلب
بسمومه ورجسه ، فينتقل الحال به إلى طلب تلك المعصية ، بدلا من الاستغفار لها
والتوبة منها ، ثم يبدأ يجاهر بعيبه وفساده ، إلى أن يتشبع قلبه ما أشربه ، فيستنكر
نصيحة صديقه له ، ويفتش عن تأويلات فاسدة لما يرتكبه ، فيقول مثل تلك العبارات ،
قاصدا أو مازحا أو متؤولا ، كلها في السوء سواء ، ويتضاعف بها الإثم واستحقاق
العذاب عند الله عز وجل .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وكذلك مقدمات الفاحشة عند التلذذ بالنظر إلى المرأة الأجنبية ، هو حرام باتفاق
المسلمين ، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( العينان
تزنيان وزناهما النظر ) [مسند أحمد (7/28)] فإذا كان المستحل لما حرم الله كافرا ،
فكيف بمن يجعله قربة وطريقا إلى الله تعالى . قال الله تعالى : ( وَإِذَا فَعَلُوا
فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ
إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا
تَعْلَمُونَ ) الأعراف/28...فكيف بمن يستحل إتيان الفاحشة الكبرى أو ما دونها ويجعل
ذلك عبادة وطريقا ، وإن كان طائفة من المتفلسفة ومن وافقهم من ضلال المتنسكة :
جعلوا عشق الصور الجميلة من جملة الطريق التي تزكّى بها النفوس ، فليس هذا من دين
المسلمين ولا اليهود ولا النصارى ، وإنما هو دين أهل الشرك الذين شرعوا من الدين ما
لم يأذن به الله " انتهى من " مجموع الفتاوى " (11/ 543) .
ويقول أيضا رحمه الله :
" إن الرجل لو جعل النظر إلى امرأته في الصلاة أو الصيام أو الاعتكاف من جملة
العبادة : كان مبتدعا ، بل كان هذا كفرا ، فكيف إذا جعل النظر إلى المرأة الأجنبية
أو الأمرد في الصلاة من جملة العبادات ، كما يفعله بعضهم ، وقد أوقد شمعة على وجه
الأمرد ، فيستجليه في صلاته ، ويعد ذلك من عباداته ، هذا من أعظم تبديل الدين
ومتابعة الشياطين .
وهذا إذا كان العمل عبادة في نفسه كالصلاة والصيام ، فكيف إذا كان العمل بدعة عظيمة
، وهو سماع المكاء والتصدية ، وضم إليه مشاهدة الصور الجميلة ، وجعل سماع هذه
الأصوات ورؤية هذه الصور من العبادات ، فهذا من جنس دين المشركين " .
انتهى من " الاستقامة " (1/317) .
ويقول ابن القيم رحمه الله :
" وإنما تستَّرَت هذه الطائفة لهواها وشهواتها ، وأوهمت أنها تنظر عبرة واستدلالا ،
حتى آل ببعضهم الأمر إلى أن ظنوا أن نظرهم عبادة ؛ لأنهم ينظرون إلى مظاهر الجمال
الإلهي ، ويزعمون أن الله - سبحانه وتعالى عن قول إخوان النصارى - يظهر في تلك
الصورة الجميلة ، ويجعلون هذا طريقا إلى الله ، كما وقع فيه طوائف كثيرة ممن يدعي
المعرفة والسلوك .... وحكى لي شيخنا أن رجلا من هؤلاء مر به شاب جميل ، فجعل يتبعه
بصره ، فأنكر عليه جليس له ، وقال : لا يصلح هذا لمثلك ، فقال : إني أرى فيه صفات
معبودي ، وهو مظهر من مظاهر جماله ، فقال : لقد فعلت به وصنعت ، فقال شيخنا : فلعن
الله أمة معبودها موطوؤها " .
انتهى من " روضة المحبين " (ص122-123) .
فالخلاصة : أن صديقك قد لا
يكون أراد ما يقصده هؤلاء الضلال الذين حكى عنهم شيخا الإسلام ابن تيمية وابن القيم
رحمهما الله ، ولكنه أطلق ما يشبه أقوالهم ، فالواجب عليه التوبة مما تلفظ به ،
وقبل ذلك التوبة من معصية النظر ، والحذر الحذر من الشيطان وشركه ، فلا يجعل على
نفسه سبيلا بالنظر المحرم ، فتتوارد إلى قلبه الشبهات والشهوات فيقع فيما هو أعظم
وأفحش .
يقول ابن القيم رحمه الله –
في معرض ذكر آفات المعصية وآثارها على العباد -:
" ومنها : ظلمة يجدها في قلبه حقيقة ، يحس بها كما يحس بظلمة الليل البهيم إذا
ادلهم ، فتصير ظلمة المعصية لقلبه كالظلمة الحسية لبصره ، فإن الطاعة نور ،
والمعصية ظلمة ، وكلما قويت الظلمة ازدادت حيرته ، حتى يقع في البدع والضلالات
والأمور المهلكة وهو لا يشعر ، كأعمى أخرج في ظلمة الليل يمشي وحده . وتقوى هذه
الظلمة حتى تظهر في العين ، ثم تقوى حتى تعلو الوجه ، وتصير سوادا في الوجه حتى
يراه كل أحد ، قال عبد الله بن عباس : إن للحسنة ضياء في الوجه ، ونورا في القلب ،
وسعة في الرزق ، وقوة في البدن ، ومحبة في قلوب الخلق ، وإن للسيئة سوادا في الوجه
، وظلمة في القبر والقلب ، ووهنا في البدن ، ونقصا في الرزق ، وبغضة في قلوب الخلق
" انتهى من " الجواب الكافي " (ص/54) .
وقد سبق في موقعنا العديد من المباحث المهمة في فوائد غض البصر والوسائل المعينة
عليه ، يمكن مراجعتها في الفتوى رقم : (20229)
، (85622) ، (114196)
، (138582) .
والله أعلم .