الحمد لله.
فإن المولى جلت قدرته ، وعظم سلطانه ، لا يتعاظمه ذنب أن يغفره مهما كان هذا الذنب ، ما دام أن العبد قد تاب منه , قال تعالى : ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) الزمر / 53
فباب التوبة مفتوح ما لم يعاين المرء الموت ، وما لم تطلع الشمس من مغربها .
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " أخرجه أحمد ( 2 / 132 ، 153 ) والترمذي ( 3537 ) وحسنه ، وحسنه أيضا الألباني في صحيح الترغيب ( 3 / 318 ) ( 3413 ) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه " أخرجه مسلم ( 3073 ) .
فعلى المسلم أن يغتنم هذه الفرصة وهذا الفضل العظيم من الله جل جلاله ويعجل بالتوبة ما دام في زمن الإمهال ولا يسوف بالتوبة .
ولكن يجب أن تكون هذه التوبة توبة نصوحا , كما قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) التحريم / 8 .
وذكر العلماء أن التوبة النصوح هي التي جمعت خمسة شروط :
1- أن تكون خالصة لله عز وجل .
2- أن يكون نادماً حزنا على ما سلف من ذنبه , يتمنى أنه لم يحصل منه .
3- أن يقلع عن المعصية فوراً ، فإن كانت المعصية بفعل محرم تركه في الحال , وإن كانت المعصية بترك واجب فعله في الحال , وإذا كانت المعصية فيما يتعلق بحقوق الخلق لم تصح التوبة منها حتى يتخلص من تلك الحقوق .
4- أن يعزم على أن لا يعود في المستقبل إلى المعصية .
5- أن لا تكون بعد انتهاء وقت قبول التوبة , كما سبق . [ينظر : مجالس شهر رمضان لابن عثيمين 143] .
وبهذا يعلم أنه ليس من شرط التوبة عدم العود إلى الذنب , وإنما شرطه العزم الجازم الصادق على أن لا يعود ،
فإن تاب العبد من الذنب الذي هو عليه ثم لعب به الشيطان ونكص على عقبيه ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ فلا ييأس من روح الله ، وليجدّ في التوبة مرة أخرى فإن الله يقبله ، فهو سبحانه واسع الفضل عظيم المغفرة .
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ؛ حتى تطلع الشمس من مغربها " أخرجه مسلم ( 2759 ) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا فَقَالَ : رَبِّ أَذْنَبْتُ فَاغْفِرْ لِي . فَقَالَ رَبُّهُ : أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي . ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا ، فَقَالَ : رَبِّ أَذْنَبْتُ فَاغْفِرْهُ . فَقَالَ : أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي . . . الحديث . رواه البخاري ( 7505) ومسلم ( 2753 ) .
ولكن ينبغي على المسلم العاقل أن يكون صادق التوبة مع الله ، صادق العزم على عدم العودة مرة أخرى ، نادمًا على ما قد جناه ، ولا تكون توبته بلسانه فقط دون جوارحه ، فهذه توبة الكذابين .
وأما القسم أو النذر بأن لا يفعل العبد هذا الذنب مرة أخرى , فلا حاجة إليه , فالتوبة النصوح تحصل باجتماع الشروط السابقة .
بقي أن يشار إلى ما ذكره السائل من أن من حنث في يمينه فعليه صيام ثلاثة أيام , فهذا ليس على إطلاقه , وإنما الواجب على من حنث في يمينه هو : عتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم , فإن لم يجد صام ثلاثة أيام , فالصيام يكون عند تعذر الأمور الثلاثة الأولى , أما مع إمكان الإتيان بأحدها فإنه لا يجوز له الانتقال إلى الصيام ، كما دل عليه قوله تعالى : ( لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) المائدة / 89 .
هذا والله تعالى أعلم , وصل الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .