الحمد لله.
نعتقد أن التعامل مع مثل هذه المشاكل ينبغي أن يبنى على أساس النظر إلى الوالد نظرة
المريض المبتلى الذي يحتاج إلى أشواط من العلاج التدريجي ، وليس على أساس أنه مجرم
ولا بد من عقابه على ما يقترف لسانه ، وهنا يبدأ الحل - بإذن الله - فالوالد مبتلى
بمرض الشك والغيرة الشديدة الخارجة عن المعتاد ، ولم يعد يملك تفكيره ومشاعره تجاه
هذه الأمور – كما هو واضح من السؤال – لذلك طفح لديه كيله الخاطئ ، ونطق بما يدور
في قلبه من نيران الغيرة وإفساد الشيطان ، وقد كان الأجدر به أن يملك زمام نفسه ،
ويضبطها برباط الشرع ، فلا ينطق إلا ببينة ودليل ، ولا يتجاوز شرع الله في اتهامه ،
خاصة وقد ذكرت أنكم أسرة ملتزمة والحمد لله .
يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( امْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ ، وَلْيَسَعْكَ
بَيْتُكَ ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ ) رواه الترمذي في " السنن " (2406) وقال :
حديث حسن . وصححه الألباني في " صحيح الترمذي ".
يقول ابن حجر الهيتمي رحمه الله – بعد أن قرر عقوبة القذف بالفاحشة وأنه من كبائر
الذنوب - : " كثيرون من الجهال واقعون في هذا الكلام القبيح الموجب للعقوبة في
الدنيا والآخرة ، ومن ثم جاء في حديث الصحيحين : ( إن العبد ليتكلم بالكلمة ما
يتبين فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب ، وقال له معاذ : يا نبي
الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ، قال : ثكلتك أمك ، وهل يكب الناس في النار على
وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ) ، قال تعالى : ( ما يلفظ من قول إلا
لديه رقيب عتيد ) وروى الترمذي والبيهقي ، وقال الترمذي : حديث حسن غريب : ( لا
تكثر الكلام بغير ذكر الله ، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة القلب ، وإن أبعد
الناس من الله تعالى القلب القاسي ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( ما من شيء أثقل
في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن ، وإن الله يبغض الفاحش البذاء ) هو
المتكلم بالفحش ورديء الكلام " انتهى باختصار من " الزواجر " (2/85-92) .
وليس من المستبعد أيضا أن يكون الوالد مريضا مرضا نفسيا أو عصبيا ، يحتاج إلى نوع
من المعالجة الطبية ، إذا أمكن ذلك .
ولكن كل ذلك لا يعني أنه يجوز لكم قطيعة والدكم بالمرة ، بل الظن أن العلاج عن طريق
الهجر ، لم يعد له كبير أثر ونفع في الناس ، إلا في النادر القليل من الأحوال ؛ وما
سوى ذلك فدوام التواصل ، مع النصيحة بالموعظة والكلمة الطيبة أفضل حالا ، وأسلم
مآلا من الهجران ، خاصة في زماننا هذا الذي كثرت فيه الفتن ، وتعددت فيه المغريات ،
بحيث غدت القطيعة أفضل إعانة للشيطان على المسلمين ، وربما أدت إلى زيادة المقاطَع
في خطئه ، وتماديه في ذنبه .
ونؤكد على ذلك في العلاقة بين الوالد وولده ، فقد قال الله عز وجل : ( وَإِن
جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا
وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ
ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) لقمان/15.
فأُمر الولدُ أن يصاحب والديه بالمعروف ، ولو جاهداه على أن يشرك بالله غيره ،
والشرك أكبر الكبائر ، فمن باب أولى أن يلتزم المصاحبة بالمعروف إذا وقع الوالد في
إثم القذف بالفاحشة ، خاصة وأن دافعه لذلك هو ما ابتلي به من الغيرة الفاسدة ،
والطبع الحاد .
لذلك فنصيحتنا لكم أن تسترضوا والدكم ، وتجتهدوا في ذلك حتى يفتح صفحة جديدة ،
تتفقون فيها معه على تقوى الله تعالى ، والتزام الحكم الشرعي في كل صغيرة وكبيرة ،
فإن صدرت منه أية مخالفة ، فاجتهدوا في نصحه وتذكيره ، واصبروا على ما أصابكم منه ؛
فإن ذلك من عزم الأمور.
ولا مانع من ضبط العلاقة والتواصل والخلطة والزيارات ، بالقدر الذي يقلل شره ،
ويدفع عنكم أذاه ، قدر الممكن لكم ، لكننا ـ مع ذلك ـ لا نرى القطيعة بالكلية ، وقد
جربتم أنتم كيف زاد هو في حدته ، وقطيعته .
وللتوسع يرجى النظر في الفتوى رقم : (198601)
والله أعلم .