عندي سؤال بخصوص الحديث الذي يقول: لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ، نعلم أن هناك كثير من الناس ممن يؤمنون بأركان الإيمان الستة ، وبوجود الله ، وبالآخرة ، لكنهم لا يصلون ، ومكانة الصلاة معروفة من الدين إذ هي الفاصل بين الإيمان والكفر . فهل يقال إن هؤلاء الأشخاص لا يدخلون النار لأنهم مؤمنين حتى ولو لم يصلوا ؟
الحمد لله.
أولا :
أجمع علماء المسلمين على أن الإيمان قول وعمل ، وأنه لا يصح الإيمان إلا بهما مجتمعين ، فالإيمان قول باللسان ، واعتقاد بالقلب ، وعمل بالجوارح ، يزيد بالطاعة ، وينقص بالمعصية .
انظر أجوبة الأسئلة أرقام : (59911) ، (119068) ، (131415) .
ثانيا :
عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ ) .
رواه الإمام أحمد (3947) ، والترمذي (1999) وصححه ، وصححه الألباني في " صحيح الترمذي " .
والمقصود أنه لا يدخلها دخول الكافرين ، فلا يخلد في النار وإن دخلها بمعصيته وذنوبه .
راجع إجابة السؤال رقم : (170526) .
وفي حديث الشفاعة عند مسلم (193) : ( ... فَيُقَالُ لِي: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَهْ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، فَأَقُولُ : أُمَّتِي أُمَّتِي ، فَيُقَالُ لِي : انْطَلِقْ فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنْهَا ، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ ، ثُمَّ أَعُودُ إِلَى رَبِّي فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا ، فَيُقَالُ لِي : يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ ، أُمَّتِي أُمَّتِي ، فَيُقَالُ لِي: انْطَلِقْ فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِنْ مِثْقَالِ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ ) .
وحاصل ذلك : أن الله تعالى يتفضل على عصاة الموحدين ، فيخرج من النار كل من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ، ثم يدخلهم الجنة برحمته ، فلا يخلد في النار وتحرم عليه الجنة إلا الكافر المحض ، الذي ليس في قلبه مثقال ذرة من إيمان ولا أدنى من ذلك .
وروى البخاري (4203) ، ومسلم (111) عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ إِلَّا مُؤْمِنٌ ) .
ثالثا :
تقدم في إجابة السؤال رقم : (145252) أن من ترك الصلاة بالكلية فقد حبط عمله.
فحيث ثبت بالنصوص الشرعية أن الجنة لا يدخلها إلا مؤمن ، وأن الإيمان قول وعمل ، لا ينعقد إلا بهما ، وأن من ترك الصلاة بالكلية حبط عمله ، فتحصل من مجموع ذلك : أن من ترك الصلاة بالكلية ، فليس معه من الإيمان الصحيح ، ما يعصمه من الدخول في النار ، على ما ورد في الحديث المذكور .
وقد روى الطبراني في "المعجم الكبير" (8941) بسند صحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : " من لم يصلّ فلا دين له " .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" كلَّ إنسان عاقل في قلبه أدنى مثقال ذَرَّة من إيمان ، لا يمكن أن يُدَاوِمَ على ترك الصَّلاة، وهو يعلَم عِظَمَ شأنها، وأنَّها فُرضت في أعلى مكان وصل إليه البشر، فكيف يشهد أنْ لا إله إلا الله ، ويُحافظ على ترك الصَّلاة ؟ إنَّ شهادةً كهذه تستلزم أن يعبده في أعظم العبادات ، فلا بُدَّ من تصديق القول بالفعل ، فلا يمكن للإنسان أن يَدَّعي شيئاً وهو لا يفعله ، بل هو كاذب عندنا ، ولماذا نكفِّره ، في النّصوص التي جاءت بتكفيره ، مع أنه يقول: لا إله إلا الله ؛ ولا نكفره بترك الصَّلاة ، مع أنَّ النصوصَ صريحةٌ في كفره ؟ ما هذا إلا تناقض.
وقوله صلّى الله عليه وسلّم في حديث معاذ: ( ما من أحدٍ يشهد أنْ لا إله إلا الله؛ وأنَّ محمداً رسول الله ـ صِدْقاً من قلبه ـ إلا حَرَّمه الله على النَّار) ، متفق عليه ، وقوله صلّى الله عليه وسلّم في حديث عِتْبَان بن مالك: ( فإن الله حَرَّم على النَّار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وَجْهَ الله) ، متفق عليه .
فتقييدُ الإتيان بالشهادتين : بإخلاص القصد ، وصدق القلب ، يمنعه من ترك الصَّلاة ؛ إذ ما من شخص يصدق في ذلك ويُخْلص ، إلا حمله صدقه وإخلاصه على فعل الصَّلاة ولا بُدّ ، فإن الصَّلاة عَمُود الإسلام ، وهي الصِّلة بين العبد وربِّه ، فإذا كان صادقاً في ابتغاء وجه الله ، فلا بُدَّ أن يفعل ما يوصله إلى ذلك ، ويتجنَّبَ ما يحول بينه وبينه .
وكذلك من شهد أنْ لا إله إلا الله ؛ وأنَّ محمداً رسول الله صِدْقاً من قلبه ؛ فلا بُدَّ أن يحمله ذلك الصِّدق على أداء الصَّلاة مخلصاً بها لله تعالى متَّبعاً فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن ذلك من مستلزمات تلك الشَّهادة الصَّادقة " .
انتهى بتصرف واختصار من " الشرح الممتع" (2/ 31-36) .
وسئل الشيخ ابن جبرين رحمه الله :
ما هو رد العلماء الذين يرون تكفير تارك الصلاة تهاوناً على أحاديث الشفاعة ، وحديث صاحب البطاقة ، وأنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان ؟
فأجاب :
" معلوم في أحاديث الشفاعة أنه لا يشفع إلا في أهل التوحيد، أهل (لا إله إلا الله) وأنهم يعرفونهم بأثر السجود ، وحرم الله على النار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود ، وهذا دليل على أنهم يصلون ، فدل على أن من لا يصلي لا يُعرف ؛ فلا تناله شفاعتهم .
وكذلك حديث البطاقة ؛ معلوم أن هذه البطاقة التي فيها الشهادتان حصلت من مؤمن موقن مصدق بها تصديقاً يقينياً، وهذا التصديق لا شك أنه يحمله على العمل بحقها، لقوله في الحديث: ( إلا بحقها ) ؛ فيكون بذلك من أهل ( لا إله إلا الله ) ، ومن العاملين بها، ومن العمل بها أداء الصلاة " انتهى من " شرح أخصر المختصرات " (64/ 39) بترقيم الشاملة .
بل فوق ذلك : نعلم يقينا أن أقواما من هذه الأمة ، من الموحدين ، ومن المصلين أيضا ، سيدخلون النار بجرائم ارتكبوها ، ثم يتفضل عليهم أرحم الراحمين ، فيخرجهم من النار ، ويدخلهم الجنة ، ولهذا تعرفهم الملائكة في النار ، بعدما احترقوا فيها من طول لبثهم ، وامتحشوا ؛ تعرفهم : بآثار السجود ، وتأكل النار من ابن آدم كل شيء ، إلا آثار السجود .
فكيف يكون حال من لم يصل قط ، بغض النظر عن كفره ، أو عدم كفره ؛ ومعلوم أن الصلاة هي أعظم مباني الإسلام ، وأعظم ما يتقرب به العبد إلى ربه ، بعد الشهادتين ، وأن تركها أعظم جرما وإثما ، من كل ذنب يمكن أن يأتي به عصاة الموحدين !!
والله أعلم .