الحمد لله.
قال ابن تيمية رحمه الله في
"الفتاوى الكبرى" (5 / 261): " وَيُوسُفُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
هَمَّ هَمًّا تَرَكَهُ لِلَّهِ ، وَلِذَلِكَ صَرَفَ اللَّهُ عَنْهُ السُّوءَ
وَالْفَحْشَاءَ لِإِخْلَاصِهِ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا قَامَ الْمُقْتَضِي
لِلذَّنْبِ وَهُوَ الْهَمُّ، وَعَارَضَهُ الْإِخْلَاصُ الْمُوجِبُ لِانْصِرَافِ
الْقَلْبِ عَنْ الذَّنْبِ لِلَّهِ ، فَيُوسُفُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ
يَصْدُرْ مِنْهُ إلَّا حَسَنَةٌ يُثَابُ عَلَيْهَا، وَقَالَ تَعَالَى: ( إِنَّ
الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا
فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (الأعراف: 201) . وَأَمَّا مَا يُنْقَلُ مِنْ أَنَّهُ
حَلَّ سَرَاوِيلَهُ ، وَجَلَسَ مَجْلِسَ الرَّجُلِ مِنْ الْمَرْأَةِ ، وَأَنَّهُ
رَأَى صُورَةَ يَعْقُوبَ عَاضًّا عَلَى يَدِهِ ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ ، فَكُلُّهُ
مِمَّا لَمْ يُخْبِر اللَّهُ بِهِ وَلَا رَسُولُهُ ، وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ
فَإِنَّمَا هُوَ مَأْخُوذٌ عَنْ الْيَهُودِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ
كَذِبًا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْحًا فِيهِمْ ، وَكُلُّ مَنْ نَقَلَهُ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ فَعَنْهُمْ نَقَلَهُ ، لَمْ يَنْقُلْ مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ عَنْ
نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرْفًا وَاحِدًا " انتهى .
يقول الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره (1 / 396): " رَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي
بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ أي: هو غلامها، وتحت تدبيرها، والمسكن واحد، يتيسر إيقاع
الأمر المكروه من غير إشعار أحد، ولا إحساس بشر. وزادت المصيبة، بأن غَلَّقَتِ
الأبْوَابَ وصار المحل خاليا، وهما آمنان من دخول أحد عليهما، بسبب تغليق الأبواب،
وقد دعته إلى نفسها وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ أي: افعل الأمر المكروه وأقبل إليَّ، ومع
هذا فهو غريب، لا يحتشم مثله ما يحتشمه إذا كان في وطنه وبين معارفه، وهو أسير تحت
يدها، وهي سيدته، وفيها من الجمال ما يدعو إلى ما هنالك، وهو شاب عزب، وقد توعدته
إن لم يفعل ما تأمره به بالسجن ، أو العذاب الأليم ، فصبر عن معصية الله ، مع وجود
الداعي القوي فيه ، لأنه قد هم فيها هما تركه لله ، وقدَّم مراد الله على مراد
النفس الأمارة بالسوء ، ورأى من برهان ربه - وهو ما معه من العلم والإيمان ، الموجب
لترك كل ما حرم الله - ما أوجب له البعد والانكفاف ، عن هذه المعصية الكبيرة ،
وقَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أي: أعوذ بالله أن أفعل هذا الفعل القبيح ، لأنه مما يسخط
الله ويبعد منه ، ولأنه خيانة في حق سيدي الذي أكرم مثواي ، فلا يليق بي أن أقابله
في أهله بأقبح مقابلة " انتهى .
مع التنبيه على أن بعض المحققين قد ذكروا أن يوسف عليه السلام لم يكن في هذه
الحادثة قد أوحي إليه بالنبوة .
قال ابن عطية : " والذي أقول في هذه الآية : إن كون يوسف نبيا في وقت هذه النازلة
لم يصح ولا تظاهرت به رواية ، وإذا كان ذلك فهو مؤمن قد أوتي حكما وعلما ويجوز عليه
الهم الذي هو إرادة الشيء دون مواقعته ، وأن يستصحب الخاطر الرديء على ما في ذلك من
الخطيئة وإن فرضناه نبيا في ذلك الوقت فلا يجوز عليه عندي إلا الهم الذي هو الخاطر
، ولا يصح عليه شيء مما ذكر من حل سراويله ونحو ذلك ، لأن العصمة مع النبوة " .
انتهى من " المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز " (3 / 234) .
وما قصَّ الله سبحانه علينا هذه القصة – وكل قصة في القرآن الكريم - إلا للعبرة ,
ومن أعظم العبرة أن يتفطن الإنسان لخطورة الخلوة بالمرأة , ولا يتهاون بها لظن
التقوى أو الصلاح فإنه بذلك يعطي الشيطان سلطانا عليه ليغويه ويوقعه في الزلل , قال
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ : (لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ
بِامْرَأَةٍ إِلا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ) . رواه أحمد والترمذي في سننه
(2091) ، وهو في " صحيح الجامع " (2546 ) .
وعلى ذلك فإن ما يفعله هذا الرجل من الامتناع عن زيارة هذه المرأة وابنتها أمر صحيح
موافق لحدود الله سبحانه , وهو من التقوى التي أمر الله سبحانه بها , نسأل الله أن
يثيبه عليه وأن يثبته على طريق العفاف والصلاح , إذ كيف يذهب إلى امرأة كانت في
السابق عشيقة له ينتهكان معا حدود الله ويقعان في معاصيه , والشيطان قد ساءه توبة
هذا الرجل واغتاظ لذلك , فهو يدعو المرأة لتجره مرة أخرى عن طريق التذرع بزيارة
ابنته والسؤال عنها .
مع التنبيه على أن وجود ابنته أثناء الزيارة وإن كان ينفي الخلوة المحرمة إلا أنه
لا يغلق باب الفتنة والحرام , لأن هذه الأم تجمعها علاقة سابقة محرمة بهذا الرجل
فمن السهل أن يوقعهما الشيطان في مهاوي الرذيلة تارة أخرى .
نسأل الله تعالى أن يقينا الفتن ما ظهر منها وما بطن .
والله أعلم .