الحمد لله.
والحديث في تخريجه وبيان ألفاظه واختلاف رواياته كلام طويل ، ليس هذا محل ذكره ، وإنما يهمنا هنا الحكم على أصل القصة ، فقد صححها كثير من المحدثين ، سكت عنها أبو داود في " السنن " ، وابن حجر في " فتح الباري " (4/400) ، وصححها الألباني في " السلسلة الصحيحة " (رقم/2901)، والوادعي في " الصحيح المسند " (1172) .
ودلالة الحديث الأهم : هي في
طريقة تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع غضب عائشة رضي الله عنها ، وكيف كان هديه
عليه الصلاة والسلام بالعمل على تهدئة الغضبان ، وترك مجاراته أو الرد عليه في غضبه
، كي لا يزداد ، فيقع الإثم والمعصية ، ويؤدي إلى ما لا تحمد عقباه .
لذلك استنبط العلماء من مثل هذا الأدب الرفيع : أن من حقوق الأخوة والمعاشرة تحمل
الغضب ، وامتصاص فورته ، والتجاوز عن الزلة التي تقع خلاله ، فهي نار في القلب
سرعان ما تنطفئ لدى المؤمن التقي .
يقول الإمام الغزالي رحمه الله :
" زلة [الصاحب] في حق [ صاحبه ] بما يوجب إيحاشه : لا خلاف أن الأولى العفو
والاحتمال ، بل كل ما يحتمل تنزيله على وجه حسن ، ويتصور تمهيد عذر فيه ، قريب أو
بعيد ، فهو واجب بحق الإخوة . فقد قيل : ينبغي أن تستنبط لزلة أخيك سبعين عذرا ،
فإن لم يقبله قلبك فرد اللوم على نفسك ، فتقول لقلبك : ما أقساك ! يعتذر إليك أخوك
سبعين عذرا فلا تقبله ، فأنت المعيب لا أخوك ... " انتهى من " إحياء علوم الدين "
(2/185) .
فالخلاصة : أن القضية في هذا الحديث ليست في غضب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، فهو مذموم ولا شك ، ولهذا غضب منها والدها أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، فلا ينبغي الاستشهاد بالحديث على تحسين التصرف المذموم ، بل نستشهد بالحديث على أحسن الهدي في التعامل مع من يصدر عنه الخلق المذموم ، وذلك في فعله عليه الصلاة والسلام ، فهو المعصوم الذي نقتدي به ، ونستشهد بأقواله وأفعاله وتقريراته ، ومن سواه من البشر يجوز عليهم الخطأ والغفلة والمخالفة .
ثالثا :
وأما الحديث الثاني : فأصل قصته في " الصحيحين " من حديث علي بن أبي طالب رضي الله
عنه : " أَنَّ فَاطِمَةَ شَكَتْ مَا تَلْقَى مِنْ أَثَرِ الرَّحَا ، فَأَتَى
النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْيٌ ، فَانْطَلَقَتْ فَلَمْ
تَجِدْهُ ، فَوَجَدَتْ عَائِشَةَ فَأَخْبَرَتْهَا ، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ بِمَجِيءِ فَاطِمَةَ ،
فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْنَا وَقَدْ أَخَذْنَا
مَضَاجِعَنَا ، فَذَهَبْتُ لِأَقُومَ ، فَقَالَ : ( عَلَى مَكَانِكُمَا ) ،
فَقَعَدَ بَيْنَنَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِي ، وَقَالَ : (
أَلاَ أُعَلِّمُكُمَا خَيْرًا مِمَّا سَأَلْتُمَانِي ، إِذَا أَخَذْتُمَا
مَضَاجِعَكُمَا تُكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ ، وَتُسَبِّحَا ثَلاَثًا
وَثَلاَثِينَ ، وَتَحْمَدَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ
خَادِمٍ ) " رواه البخاري (3705) ، ومسلم (2727) .
وأما اللفظ الوارد في السؤال
، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة : ( أنتِ أقرب إلى قلبي ، وعلي في
قلبي ) فلا أصل له في كتب السنة والحديث ، وإنما هو كذب وافتراء على النبي صلى الله
عليه وسلم .
ونحن لا نشك أن عليا وفاطمة رضي الله عنهما من أحب الناس إلى النبي صلى الله عليه
وسلم وأقربهم إليه ، ولكن ذلك لا يجيز لنا أن نكذب كلاما فننسبه إلى النبي صلى الله
عليه وسلم ، كما لا يجيز لنا أن نتناقل مثل هذه الأحاديث الموضوعة ونحكيها على سبيل
الإقرار والاستشهاد ، بل على سبيل التكذيب والإنكار فحسب .
والله أعلم .