يتهمونني بالطيب إلى حد السذاجة
يحزنني كثيرا أن كثيرا ممن أعرفهم أخبروني أني لست فطنا ، وأني لا يعتمد علي ، وأني طيب إلى درجة السذاجة ، شعور مؤلم أن يسمع الإنسان كلاما موجعا مثل هذا ، خاصة من أقرب الناس لي ، علما أني - ولله الحمد - وهبني الله قدرات عظيمة ، مثل اللباقة في الكلام ، وحسن التصرف ، وتولي المسؤولية بكل حنكة وحكمة ، والنباهة ، والفطنة . فأريد إظهار قدراتي لدى كل الناس أيا كانوا بنية أن يحترموني ويقدروا مكانتي ، وأن يعلموا بأني حذق ولمّاح وأستحق التقدير ، ولست بغبي وغافل ، فهل هذا من التفاخر أو الكبر المذموم شرعاً ؟
علما أني أستعملها كوسيلة رد على نظرتهم الاحتقارية الاستصغارية لذاتي .
لن تستطيعوا أن تتخيلوا مدى عمق الجرح الذي أصابني بعد سماعي لهذه الأحاديث الموجعة التي تتكرر علي ، وكأني لا قيمة ولا مكانة لي . أصبحت سجين نفسي .
هل أظهر قدراتي ليعرفوا من أنا فعلا ، أم لا أظهرها ظنا بأن مقصدها التكبر والتفاخر فتحبط أعمالي !؟
أرجو الإجابة على سؤالي الذي أرهق تفكيري ، وجعلني سلبيا في حياتي التي تدهورت .
الجواب
الحمد لله.
يؤلمنا أن نسمع كثيرا من صغار الشباب هذه الشكاية المتكررة ، التي تدل على اهتزاز
الثقة بالنفس ، والتأثر السريع والمبالغ فيه بانتقاد الآخرين ، إلى درجة الوقوع في
الاكتئاب والإحباط والرغبة عن الدنيا .
ومثل هذه المشاعر لا يعالجها – في رأينا - تكلف إظهار قدراتك في غير محلها ، وإنما
يعالجها أمور مهمة ، نختصرها فيما يلي :
أولا :
أن تعزز ثقتك بنفسك ، فالواثق لا تؤثر فيه الكلمات الطائشة التي تصدر عن الحاقدين
أو الحاسدين أو الصغار الأغرار ، وإنما إذا وُجِّه إليه الانتقاد من أحد العقلاء
الحكماء راجع نفسه ، واستفاد من بيان النقص الذي عنده ، وفي الوقت نفسه لم تهتز
ثقته بنفسه في جميع الجوانب الأخرى الإيجابية والإبداعية في شخصيته ، ولم يتأثر
نجاحه في حياته من الجهات الأخرى . هذه سمة الواثق ، يستفيد من النقد الصحيح ،
ويُعرض عن النقد السلبي المتسرع ، وفي جميع الأحوال لا تتأثر شخصيته عامة بما سمعه
، وإنما يسعى دائما للأفضل مع الاعتزاز والبناء على ما حققه ، من غير هدم ولا إلغاء
.
ثانيا :
أن تُدرك أن الطعن والتنقص من قبل الآخرين له بداية وليس له نهاية ، فالأذى في
الناس كثير ، ودوافعه النفسية المريضة أكثر ، ولو وقف كل منا عند طعن كل جاهل فينا
لَمِتنا هما وغما ، ولما تقدمنا خطوة واحدة في سبيل النجاح في حياتنا ، وإذا كان
الله جل جلاله ، وعز شأنه ، لم يسلم من ألسنة البشر بالسب والأذى ، فهل تريد ذلك
أنت ، وأنت العبد الفقير إلى الله سبحانه . قال صلى الله عليه وسلم : ( مَا أَحَدٌ
أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ يَدَّعُونَ لَهُ الْوَلَدَ ثُمَّ
يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ) رواه البخاري (7378) ، ومسلم (2804) .
يقول ابن مفلح المقدسي رحمه الله : " قال موسى صلوات الله عليه : يا رب ! إن الناس
يقولون فيَّ ما ليس فيَّ ! فأوحى الله إليه : يا موسى : لم أجعل ذلك لنفسي ، فكيف
أجعله لك " .
انتهى من " الآداب الشرعية " (1/7-8).
والفائدة من هذا الخبر أن لا يكون نقد الحساد ، وطعن المغرضين ، سببا في فتور
المسلم عن نجاحه وتقدمه ، ولا سببا في حبوط همته وضعف عزيمته ، وليتذكر دائما أن
الله عز وجل والملائكة والرسل والأنبياء لم يسلموا من الشتم والأذى .
ثالثا :
كما ننصحك أن تنشغل بتحقيق النجاحات في علمك وشخصك ، فتحرص على تطوير مهاراتك ،
والالتحاق بالدورات النافعة التي تعلم العلوم الشرعية ، أو علوم الحاسوب ، أو
الرياضات المفيدة ، فضلا عن النجاح في دراستك والتفوق فيها ، كل ذلك سيكون الأفضل
لك في الدنيا والآخرة ، وسيشغلك عن القيل والقال الذي تسبب لك بالأذى ، بل هو الذي
سيثبت بطريقة عملية : مدى نجاحك ، وتفوقك ، وأنك لست كالذي يظنونه بك .
فشأن المسلم دائما هو امتثال وصية النبي صلى الله عليه وسلم حين قال : (
الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ
الضَّعِيفِ ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ . احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ ، وَاسْتَعِنْ
بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي
فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا ، وَلَكِنْ قُلْ : قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ
، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ ) رواه مسلم (2664) .
رابعا :
أما سعيك في إظهار القدرات والمهارات فهذا فيه تفصيل :
إن كان الموقف يتطلب منك إظهار كفاءتك في حسن التصرف ، أو الحكمة في القول ، أو
لباقة الحديث ، ونحو ذلك ، فلا حرج عليك في اتخاذ الموقف المناسب ، بل هذا هو
الواجب عليك ، ليس لأجل إقناع الناس بما عندك ، وإنما لأن الظرف يقتضي ذلك ، ولأن
الصواب في هذا المقام أن تفعل ذلك .
أما إذا لم يكن هناك ظرف ولا مناسبة أصلا ، ولا وجد الحدث الذي يحتاج منك التصرف
بما ذكرته في سؤالك ، فلا ينبغي لك تكلف أقوال أو أفعال لتثبت للناس ما في شخصيتك ،
فإن فعلت ذلك وقعت في التنطع المذموم ، ودللت على ضعف ثقتك بنفسك ، وتسببت - في
الوقت نفسه - بتنفير من حولك بسبب هذا التصرف في غير مقامه المناسب .
وللمزيد ننصح بمراجعتك الفتاوى الآتية : (115129)
، (211221) .
والله أعلم .