الحمد لله.
الصحيح أننا يجب أن نزيل المنكر بقدر الاستطاعة ونجعل الجهد أولاً والمحاولة لإزالته بالكلية فإن عجزنا وأمكن أن نخفف منه أو من بعض آثاره فإن قواعد الشريعة تقتضي أن نقوم بذلك ، خصوصاً وأننا نعيش في عصر تكثر فيه الغلبة للأشرار وكثيراً ما لا يتمكن الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والدعاة إلى الله من تحقيق كل ما يريدون فلا أقل من تخفيف الشر والميسور لا يسقط بالمعسور ، وما لا يدرك كله لا يترك جله ، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها غير أنه لا بد من التأكيد على أصل القضية وهو أن على الداعية الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن لا يرضى بأنصاف الحلول بإن إن عجزنا أو الاكتفاء بالتخفيف من المنكر ما أمكنه إزالته بالكلية .
وكثيراً ما يكتفي الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر بالتخفيف من المنكر دون العمل على إزالته .. كمن يأمر المرأة التي أظهرت الكثير من مفاتنها للأجانب بأن تغطي ذلك سوى الوجه والكفين ، مع أنه يمكنه أن يأمرها بالحجاب الكامل .
وكمن يمر بمن يظهر أصوات الغناء والمعازف فيأمره بأن يخفض من صوت ذلك المنكر .
وكمن يطلب منه تعليم النساء أو الفتيات فيشترط أن يتحجبن وأن لا يخضعن بالقول ، مع أنه يمكنه أن يفرض حاجزاً بينه وبينهن فيسمعن صوته دون أن يراهن .
ومن أدلة هذه المسألة من القرآن ما صنعه موسى عليه السلام مع العجل الذي عبده بنو إسرائيل وعكفوا عليه فقال : ( لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفاً ) طه/97 .
ومن السنة ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع مسجد الضرار الذي اتخذه المنافقون فأمر بإحراقه بعد هدمه .
ومن ذلك أيضاً ما أخرجه البخاري وغيره من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال : ( دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب ، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول : جاء الحق وزهق الباطل ، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد ) رواه البخاري .
ومن هذا الباب ما أخرجه البخاري في صحيحه من حديث جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه - قال : ( قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا تريحني من ذي الخلصة ؟ فقلت : بلى ، فانطلقت في خمسين ومائة فارس من أحمس ، وكانوا أصحاب خيل ، وكنت لا أثبت على الخيل ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضرب يده على صدري حتى رأيت أثر يده في صدري ، وقال اللهم ثبته واجعله هادياً مهدياً ، قال : فما وقعتُ عن فرس بعد . قال : وكان ذو الخلصة بيتاً باليمن لجثعم وبجيلة وفيه نصب تُعبد يقال له الكعبة ، قال : فأتاها فحرقها بالنار وكسرها .
قال : ولما قدم جرير اليمن كان بها رجل يستقسم بالأزلام ، فقيل له : إن رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم ها هنا ، فإن قدر عليك ضرب عنقك . قال : فينما هو يضرب بها إذ وقف عليه جرير فقال لتكسرنها ، ولتشهدن أن لا إله إلا الله ، أو لأضربن عنقك ، قال : فكسرها وشهد ، ثم بعث جرير رجلاً من أحمس يكنى أبا أرطأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبشره بذلك فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال : يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما جئت حتى تركتها كأنها جمل أجرب ، قال : فبرك النبي صلى الله عليه وسلم على خير أحمس ورجالها خمس مرات ) .
والشاهد في هذا الحديث في موضعين : الأول : ما فعل بذي الخلصة ، والثاني : موقفه من صاحب الأزلام ..
قال في الفتح : ( وفي الحديث مشروعية إزالة ما يفتتن به الناس من بناء وغيره سواء كان إنساناً أو حيواناً أو جماداً ) ا.هـ. 8/73 .
ومن ذلك أنه لما أرسل خالد بن الوليد - رضي الله عنه - إلى العزى وقطع السمرات الثلاث وهدم البيت .. فلما أخبره بما صنع ، أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لم يصنع شيئاً ، ثم أمره بأن يعود إليها حتى وجد تلك المرأة العارية نافشة شعرها وتحثي التراب على رأسها فعلاها بالسيف .. فلما رجع للنبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تلك العزى ) . زاد المعاد 3/414 .
وجاء عن بعض السلف أنه مر بغلمان يلعبون بالكجة - وهي حفر فيها حصي يلعبون بها - فسدها ونهاهم عنها . تفسير القرطبي 8/340 .
لكن لو عجز المحتسب عن إزالته بالكلية فإنه يعمل على التخفيف منه قدر الاستطاعة .
قال ابن القيم - رحمه الله - عند ذكره بعض الفوائد المستنبطة من غزوة تبوك : ( ومنها تحريق أمكنة المعصية التي يعصى الله ورسوله فيها ، وهدمها ، كما حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار وأمر بهدمه ، وهو مسجد يصلى فيه ويذكر اسم الله فيه ، لما كان بناؤه ضراراً وتفريقاً بين المؤمنين ومأوى للمنافقين ، وكل مكان هذا شأنه فواجب على الإمام تعطيله إما بهدم وتحريق ، وإما بتغيير صورته وإخراجه عما وضع له ، وإذا كان هذا شأن مسجد الضرار فمشاهد الشرك التي تدعو سدنتها إلى اتخاذ من فيها أنداداً من دون الله أحق بالهدم وأوجب ، وكذلك محالّ المعاصي والفسوق ، كالحانات بيوت الخمارين وأرباب المنكرات ، وقد حرق عمر بن الخطاب قرية بكاملها يباع فيها الخمر ، وحرق حانوت رويشد الثقفي وسماه فويسقاً ، وحرق قصر سعد عليه لما احتجب فيه عن الرعية ، وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت تاركي حضور الجماعة والجمعة ، فإنما منعه من فيها من النساء والذرية الذين لا تجب عليه كما أخبر هو عن ذلك ) ا.هـ. زاد المعاد 3/571-572.