فائدة بديعة عن السُّهيلي رحمه الله من قصة جمل جابر رضي الله عنه الذي اشتراه منه النبي صلى الله عليه وسلم.
أرجو شرح عبارة السهيلي التي قالها تعليقا على قصة جمل جابر رضي الله عنه
ففيها أمور تحتاج إلى توضيح .
حيث قال رحمه الله : " في هذا الحديث إشارة إلى ما أخبر به صلى الله عليه وسلم جابر بن عبدالله ، أن الله أحيا والده وكلمه ، وقال له ( تمن علي ) وذلك أنه شهيد ، وقد قال تعالى :( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ) ، وزادهم على ذلك في قوله ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، ثم جمع لهم بين العِوض والمُعوَّض فرد عليهم أرواحهم التي اشتراها منهم
فقال ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) ، والروح للإنسان بمنزلة المطية كما قال عمر بن عبدالعزيز ، فلذلك اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم من جابر جمله وهو مطيته ، فأعطاه ثمنه ثم رده عليه وزاده مع ذلك ففيه تحقيق لما كان أخبره به عن أبيه " ، نقله عنه ابن كثير في " البداية والنهاية " (5/571-572) .
الجواب
الحمد لله.
روى الترمذي (3010) وحسنه ، وابن ماجة (190) عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ رضي الله
عنهما قال : " لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،
فَقَالَ لِي : ( يَا جَابِرُ مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا ؟ ) ، قُلْتُ : يَا
رَسُولَ اللَّهِ اسْتُشْهِدَ أَبِي ، وَتَرَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا، قَالَ: (
أَفَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللَّهُ بِهِ أَبَاكَ ؟ ) ، قَالَ: بَلَى يَا
رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : ( مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ
وَرَاءِ حِجَابٍ ، وَأَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا، فَقَالَ: يَا عَبْدِي
تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ. قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً
، قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا
لَا يُرْجَعُونَ ) ، قَالَ: وَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ : ( وَلَا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ) آل عمران/ 169 ، وحسنه
الألباني في " صحيح الترمذي " .
وروى البخاري (2097) ، ومسلم (715) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ : " كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي غَزَاةٍ ، فَأَبْطَأَ بِي جَمَلِي وَأَعْيَا، فَأَتَى عَلَيَّ
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( جَابِرٌ ) : فَقُلْتُ:
نَعَمْ ، قَالَ: ( مَا شَأْنُكَ ؟ ) ، قُلْتُ: أَبْطَأَ عَلَيَّ جَمَلِي وَأَعْيَا،
فَتَخَلَّفْتُ ، فَنَزَلَ يَحْجُنُهُ بِمِحْجَنِهِ ثُمَّ قَالَ : ( ارْكَبْ )،
فَرَكِبْتُ ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ أَكُفُّهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ...
ثُمَّ قَالَ : ( أَتَبِيعُ جَمَلَكَ ؟ ) ، قُلْتُ: نَعَمْ ، فَاشْتَرَاهُ مِنِّي
بِأُوقِيَّةٍ ، ثُمَّ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَبْلِي ، وَقَدِمْتُ بِالْغَدَاةِ ، فَجِئْنَا إِلَى المَسْجِدِ فَوَجَدْتُهُ
عَلَى بَابِ المَسْجِدِ ، قَالَ: ( آلْآنَ قَدِمْتَ ؟ ) ، قُلْتُ: نَعَمْ ، قَالَ :
( فَدَعْ جَمَلَكَ ، فَادْخُلْ ، فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ ) ، فَدَخَلْتُ فَصَلَّيْتُ
، فَأَمَرَ بِلاَلًا أَنْ يَزِنَ لَهُ أُوقِيَّةً ، فَوَزَنَ لِي بِلاَلٌ ،
فَأَرْجَحَ لِي فِي المِيزَانِ ، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى وَلَّيْتُ ، فَقَالَ: (
ادْعُ لِي جَابِرًا ) ، قُلْتُ: الآنَ يَرُدُّ عَلَيَّ الجَمَلَ ، وَلَمْ يَكُنْ
شَيْءٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْهُ ، قَالَ: ( خُذْ جَمَلَكَ ، وَلَكَ ثَمَنُهُ ) .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله :
" قَالَ السُّهَيْلِيُّ : فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا كَانَ أَخْبَرَ
بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ
اللَّهِ أَنَّ اللَّهَ أَحْيَا وَالِدَهُ وَكَلَّمَهُ ، فَقَالَ لَهُ: تَمَنَّ
عَلَيَّ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ شَهِيدٌ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (إِنَّ
اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ) وَزَادَهُمْ
عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ )
ثُمَّ جَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ
أَرْوَاحَهُمُ الَّتِي اشْتَرَاهَا مِنْهُمْ، فَقَالَ: ( وَلَا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ
رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) وَالرُّوحُ لِلْإِنْسَانِ بِمَنْزِلَةِ الْمَطِيَّةِ ،
كَمَا قَالَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ : فَلِذَلِكَ اشْتَرَى
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جَابِرٍ جَمَلَهُ وَهُوَ
مَطِيَّتُهُ فَأَعْطَاهُ ثَمَنَهُ ، ثُمَّ رَدَّهُ عَلَيْهِ ، وَزَادَهُ مَعَ
ذَلِكَ. قَالَ: فَفِيهِ تَحْقِيقٌ لِمَا كَانَ أَخْبَرَهُ بِهِ عَنْ أَبِيهِ .
وَهَذَا الَّذِي سَلَكَهُ السُّهَيْلِيُّ هَاهُنَا إِشَارَةٌ غَرِيبَةٌ وَتَخَيُّلٌ
بَدِيعٌ ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ ".
انتهى من " البداية والنهاية " (5/ 571-572) .
ومعنى كلام أبي القاسم السهيلي رحمه الله أن الحديث الأول أفاد أن الله تعالى أحيا
أبا جابر رضي الله عنهما وكلمه وقال له : ( تمنّ عليّ ) وذلك أنه شهيد ، وقد اشترى
الله من الشهداء أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، كما قال تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ
اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ
الْجَنَّةَ )التوبة/ 111 ، ومن كان من أهل الجنة فله ما تشتهي نفسه ، وقد زاد الله
تعالى أهل الجنة على هذا النعيم النظر إلى وجهه الكريم ، وهو معنى الزيادة في قوله
: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) يونس/26 ، فالحسنى الجنة ، والزيادة هي النظر إلى
وجه الله الكريم ، كما سبق بيانه في جواب السؤال رقم : (14525)
.
ثم جمع الله لأهل الجنة بين العِوَض والمعَوَّض ، فالعوض هو أرواحهم التي بذلوها
حيث ردها الله عليهم ، والمعوض هو الجنة .
واشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم من جابر جمله ، ثم رده عليه ، فجمع له بين
العوض والمعوض ، وهما : الجمل والثمن ، كما جمع الله لأبيه بين الجنة والروح .
وهناك وجه شبه بين الجمل والروح ، فالجمل مطية للإنسان – يبلغ به حاجته ، والروح
كذلك ، فهي مطية الشهيد ليدخل بسببها الجنة .
وهذا المعنى الذي ذكره السهيلي قد يكون أو لا يكون هو المقصود من الرسول صلى الله
عليه وسلم ، وهو مجرد تخيل من السهيلي ، ولا يمكن الجزم بأن الرسول صلى الله عليه
وسلم فعل ذلك إشارة إلى المعنى ، ولهذا قال ابن كثير رحمه الله عن هذا القول : "وهو
إشارة غريبة ، وتخيل بديع " انتهى .
والله تعالى أعلم .