قام رجلان بجعل معظم أملاكهم وقف لله سبحانه وتعالى ، ولكن بعد تعرضهم لضائقة مالية قاموا ببيع جزء من هذا الوقف ، وبعد وفاتهما قام ورثتهما ببيع جزء آخر من هذا الوقف ، وقد قام والدي بشراء بعض هذه الممتلكات من رجل آخر اشتراها من أحد أبناء الرجلين ، فما الحكم الشرعي وهل يأثم أبي إن باع هذه الممتلكات أو استخدمها بعد أن اشتراها ؟
الحمد لله.
أولا :
روى البخاري (2764) ، ومسلم (1632) أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد أن يتصدق بنخل له ، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمره أن يوقفه ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ ، لاَ يُبَاعُ وَلاَ يُوهَبُ وَلاَ يُورَثُ، وَلَكِنْ يُنْفَقُ ثَمَرُهُ ) .
ولفظ مسلم : ( لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلَا يُبْتَاعُ ) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
زَادَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ : ( حَبِيسٌ [أي : وقف] مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ ) " انتهى من "فتح الباري" (5/ 401) .
وقال الشيخ عبد الله البسام رحمه الله :
" يؤخذ من قوله: (لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث) حكم التصرف في الوقف ، فإنه لا يجوز نقل الملك فيه ، ولا التصرف الذي يسبب نقل الملك، بل يظل باقيا لازما، يعمل به حسب شرط الواقف الذي لا حيف فيه ولا جنف " انتهى من "تيسير العلام" (ص 535) .
وقوله صلى الله عليه وسلم : ( لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلَا يُبْتَاعُ ) يدل على أن الوقف لا يصح بيعه ولا شراؤه .
قال أبو الحسن الماوردي رحمه الله :
" شِرَاءُ الْوَقْفِ بَاطِلٌ بِوِفَاقٍ [أي : باتفاق العلماء]" انتهى من "الحاوي" (3/ 332) .
ثانيا :
إذا وقف الإنسان شيئا لزم الوقف ، وانقطع حق الواقف في التصرف في العين الموقوفة ، فلا يباع ولا يوهب ولا يورث .
وليس للواقف الرجوع في وقفه ، حتى وإن احتاج إليه .
سئل علماء اللجنة الدائمة للإفتاء عن رجل وقف أرضا لتكون مقبرة ، وبقيت سنوات لم يدفن فيها أحد ، وأحيل إلى التقاعد (المعاش) ، وأراد الرجوع فيها ، أو في بعضها ، لحاجته إليها. فهل يجوز ذلك ؟
فأجابت:
" لا يجوز الرجوع فيما وقفته من الأرض ، ولا في بعضها؛ لأنها خرجت عن ملكك بالوقف ، إلى الانتفاع بها فيما جُعلتْ له ، فإن احتيج إليها في تلك الجهة للدفن فيها فبها، وإلا بيعت وجعل ثمنها في مقبرة في جهة أخرى ، وذلك التصرف بمعرفة قاضي تلك الجهة التي فيها الأرض الموقوفة .
وضعف حالك بعد إحالتك على التقاعد : لا يبرر لك الرجوع في وقفك ، وارج الله أن يأجرك ، ويخلف عليك خيرا مما أنفقت " انتهى من "فتاوى اللجنة الدائمة" (16/ 96) .
وينظر جواب السؤال رقم : (103236) ، (140176) .
ثالثا :
من استولى على الوقف وباعه ، فهو غاصب لهذا الوقف ، حتى وإن كان هو مالكه الأصلي ، قبل أن يصير وقفا ، والواجب عليه أن يرده ، أو ويرد بدله إن تعذر رده بعينه ، وكذا الحكم في كل من انتقل إليه الوقف ببيع إو إجارة أو هدية أو ميراث .. إلخ .
وقد سبق في السؤال رقم : (10323 ) أن الأيدي التي ينتقل إليها المغصوب عن طريق الغاصب ، كلها تضمن المغصوب إذا تلف فيها , كيد المشتري, ويد المستأجر .
وفي كل الصور: إذا علم الثاني بحقيقة الحال , وأن الدافع إليه غاصب ؛ فالضمان يستقر عليه في النهاية ؛ لأنه متعمد للعدوان على ملك غيره ، وإن لم يعلم بحقيقة الحال ، فالضمان على الغاصب الأول .
جاء في "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (5/ 418):
" قَالَ فِي " الْمُحَرَّرِ " : وَمَنْ قَبَضَ مَغْصُوبًا مِنْ غَاصِبِهِ ، وَلَمْ يَعْلَمْ : فَهُوَ بِمَنْزِلَتِهِ فِي جَوَازِ تَضْمِينِهِ الْعَيْنَ وَالْمَنْفَعَةَ، لَكِنَّهُ يَرْجِعُ إذَا غَرِمَ ، عَلَى غَاصِبٍ ، بِمَا لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهُ خَاصَّةً " انتهى .
وقال ابن رجب رحمه الله في "القواعد" (ص 210):
" مَنْ قَبَضَ مَغْصُوبًا مِنْ غَاصِبِهِ ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مَغْصُوبٌ : فَالْمَشْهُورُ عَنْ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ ، فِي جَوَازِ تَضْمِينِهِ مَا كَانَ الْغَاصِبُ يَضْمَنُهُ ، مِنْ عَيْنٍ وَمَنْفَعَةٍ " انتهى .
والخلاصة :
أن شراء والدك للوقف شراء باطل ، ولا يجوز له تملكه والانتفاع به ، فيرجع والدك على من باع له ، ويسترد منه الثمن ، ويعود الوقف وقفاً كما كان .
هذا هو الواجب شرعا .
والله تعالى أعلم .