الحمد لله.
وكما يجب على الرجل أن يدافع
عن عرض أهله ، فكذلك يجب على هؤلاء الأهل ألّا يستسلموا للمعتدي عليهم ، بل عليهم
أيضا أن يدفعوا المعتدي .
قال الرملي رحمه الله تعالى :
" الزنا لا يباح بالإكراه ، فيحرم على المرأة أن تستسلم لمن صال عليها ليزني بها
مثلا ، وإن خافت على نفسها " انتهى من "نهاية المحتاج " (8 / 25) .
وذكر النووي رحمه الله تعالى
اتفاق أهل العلم على وجوب هذه المدافعة ؛ حيث قال :
" وأما المدافعة عن الحريم : فواجبة بلا خلاف " انتهى من "شرح صحيح مسلم" (2 / 165)
.
وللمسلم أن يدافع عن عرضه
حتى ولو غلب على ظنه أنه سيقتل ؛ لأن دفاعه هذا يحقق أحد المقصدين :
إما حماية العرض ، إذا كان يعلم أنّ هذا القتال يحقق هذه الحماية ويكفّ المتعدي .
أو القيام بما شرع له من الجهاد ، ومقاومة الظلم ، إن غلب على ظنه القتل وعدم تحقق
كفّ شرّ المعتدي .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" وهذا الذي يقاتل العدو مع غلبة ظنه أنه يقتل قسمان :
... والثاني : أن يكون العدو قد طلبه ، وقتاله قتال اضطرار ... ويكون قتال هذا إما
دفعا عن نفسه وماله وأهله ودينه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من قتل دون
ماله فهو شهيد ، ومن قتل دون دمه فهو شهيد ، ومن قتل دون حرمته فهو شهيد ) . قال
الترمذي: حديث حسن صحيح .
ويكون قتاله دفعا للأمر عن نفسه أو عن حرمته ، وإن غلب على ظنه أنه يقتل ، إذا كان
القتال يحصل المقصود ، وإما فعلا لما يقدر عليه من الجهاد ، كما ذكرناه عن عاصم بن
ثابت وأصحابه " انتهى من " جامع المسائل " (5 / 328 – 329) .
وقصة عاصم بن ثابت رضي الله عنه رواها البخاري (3045) عن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ: " بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَشَرَةَ رَهْطٍ سَرِيَّةً عَيْنًا ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ
الأَنْصَارِيَّ ـ جَدَّ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ ـ ، فَانْطَلَقُوا
حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالهَدَأَةِ ـ وَهُوَ بَيْنَ عُسْفَانَ وَمَكَّةَ ـ ذُكِرُوا
لِحَيٍّ مِنْ هُذَيْلٍ ، يُقَالُ لَهُمْ بَنُو لَحْيَانَ ، فَنَفَرُوا لَهُمْ
قَرِيبًا مِنْ مِائَتَيْ رَجُلٍ كُلُّهُمْ رَامٍ ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ حَتَّى
وَجَدُوا مَأْكَلَهُمْ تَمْرًا تَزَوَّدُوهُ مِنَ المَدِينَةِ ، فَقَالُوا : هَذَا
تَمْرُ يَثْرِبَ ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ ، فَلَمَّا رَآهُمْ عَاصِمٌ
وَأَصْحَابُهُ لَجَئُوا إِلَى فَدْفَدٍ ، وَأَحَاطَ بِهِمُ القَوْمُ ، فَقَالُوا
لَهُمْ : انْزِلُوا وَأَعْطُونَا بِأَيْدِيكُمْ ، وَلَكُمُ العَهْدُ وَالمِيثَاقُ
وَلاَ نَقْتُلُ مِنْكُمْ أَحَدًا ، فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ أَمِيرُ
السَّرِيَّةِ : أَمَّا أَنَا فَوَاللَّهِ لاَ أَنْزِلُ اليَوْمَ فِي ذِمَّةِ
كَافِرٍ ، اللَّهُمَّ أَخْبِرْ عَنَّا نَبِيَّكَ ، فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ
فَقَتَلُوا عَاصِمًا فِي سَبْعَةٍ ، فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ
بِالعَهْدِ وَالمِيثَاقِ ، مِنْهُمْ خُبَيْبٌ الأَنْصَارِيُّ وَابْنُ دَثِنَةَ
وَرَجُلٌ آخَرُ ، فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ أَطْلَقُوا أَوْتَارَ
قِسِيِّهِمْ فَأَوْثَقُوهُمْ ، فَقَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ : هَذَا أَوَّلُ
الغَدْرِ ، وَاللَّهِ لاَ أَصْحَبُكُمْ إِنَّ لِي فِي هَؤُلاَءِ لَأُسْوَةً ـ
يُرِيدُ القَتْلَى ـ فَجَرَّرُوهُ وَعَالَجُوهُ عَلَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ فَأَبَى ،
فَقَتَلُوهُ ، ... : .
فعاصم وأصحابه رفضوا الاستسلام رغم غلبة الظن أنهم سيقتلون وأن قتالهم لا يحقق
المقصود وهو النجاة .
ثانيا :
على المعتدى عليه أن يتدرّج في دفع العدوان بالأخف فالأخف فإن لم يستطع كفّ المعتدي
إلا بالقتل جاز القتل حينئذ .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" يدفعهم ـ أي قطاع الطرق ـ بالأسهل فالأسهل ، فإن لم يندفعوا إلا بالقتال فله أن
يقاتلهم ، فإن قتل كان شهيدا ، وإن قتل واحدا منهم على هذا الوجه كان دمه هدرا ؛
وكذلك إذا طلبوا دمه كان له أن يدفعهم ، ولو بالقتل ؛ إجماعا " انتهى من " مجموع
الفتاوى " (34 / 242).
قال النووي رحمه الله تعالى :
" أما كيفية الدفع ، فيجب على المصول عليه رعاية التدريج ، والدفع بالأهون فالأهون
، فإن أمكنه الدفع بالكلام ، أو الصياح ، أو الاستغاثة بالناس ، لم يكن له الضرب
... أما إذا لم يندفع الصائل إلا بالضرب ، فله الضرب ... ولو أمكن بقطع عضو ، لم
يجز إهلاكه ... ولو كان الصائل يندفع بالسوط والعصا ، ولم يجد المصول عليه إلا سيفا
أو سكينا ، فالصحيح أن له الضرب به ... والمعتبر في حق كل شخص حاجته ".
انتهى من " روضة الطالبين " (10 / 187) .
ثالثا :
كما يدافع المسلم عن عرض أهله ، كذلك عليه أن يدافع عن عرض المسلمات ، خاصة إذا
استصرخن وطلبن نجدته .
قال الخطيب الشربيني :
"ويجب الدفع عن بُضْعٍ ... وسواء بضع أهله أو غيره " .
انتهى من " مغني المحتاج " (5 / 528) .
فيجب على المسلم السعي في
الدفع عن عرض المسلمات ، وهذا من وجهين :
الوجه الأول : أن الاعتداء على الأعراض منكر من المنكرات ، والمسلم يجب عليه النهي
عن المنكر بقدر ما يستطيع .
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ
بِيَدِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ
فَبِقَلْبِهِ ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ ) رواه مسلم ( 78 ) .
سئل الغزالي رحمه الله تعالى :
" إذا صال إنسان على آخر ، فعجز المصال عليه عن دفعه ؛ فهل يجب على من يقدر على
دفعه أن يدفعه ؛ حتى إن قتله دفعاً لم يجب الضمان ؟
الجواب : يجب ذلك بطريق النهي عن المنكر ، ولا ضمان عليه " .
انتهى من " فتاوى الغزالي" (ص113).
الوجه الثاني : جاء الشرع
آمرا المسلم بنصرة أخيه المسلم .
عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا )، فَقَالَ
رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا ، أَفَرَأَيْتَ
إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ ؟ قَالَ: ( تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ
مِنَ الظُّلْمِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ ) رواه البخاري (6952) ، ومسلم (2584) من
حديث جابر رضي الله عنه .
وعن عَبْد اللَّهِ بْن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لاَ
يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ ) رواه البخاري (2442) ، ومسلم (2580) .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
" ( المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ ) يعني في الدين ...
( وَلاَ يُسْلِمُهُ ) يعني لا يسلمه لمن يظلمه ، فهو يدافع عنه ويحميه من شره ، فهو
جامع بين أمرين:
الأمر الأول: أنه لا يظلمه .
والأمر الثاني: أنه لا يسلمه لمن يظلمه ، بل يدافع عنه .
ولهذا قال العلماء ـ رحمهم الله ـ : يجب على الإنسان أن يدافع عن أخيه في عرضه
وبدنه وماله " انتهى من " شرح رياض الصالحين " (2 / 566 – 567) .
والمسلمة ، وإن كانت فاسقة
بتبرجها مثلا ؛ فإنّ هذا الفسق لا يزيل عنها الأخوة الإيمانية ، كما هي عقيدة أهل
السنة والجماعة ، ولا يسقط حقها في الموالاة والنصرة ، بحسب القدرة .
قال الله تعالى : ( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا
الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا
بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ،
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا
اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) الحجرات /9 – 10 .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى :
" وفي هاتين الآيتين من الفوائد ... وأن الإيمان والأخوة الإيمانية لا تزول مع وجود
القتال ، كغيره من الذنوب الكبار التي دون الشرك ، وعلى ذلك مذهب أهل السنة
والجماعة " .
انتهى من " تفسير السعدي " ( ص 801) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" ومن أصول أهل السنة ... لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر ، كما يفعله
الخوارج ؛ بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي " انتهى من " مجموع الفتاوى " (3 /
151).
والمرأة المجهولة الحال في
بلد أكثر أهله مسلمون ، غالب الظن أنها مسلمة ، فيجب الدفاع عنها ؛ وإذا قدر أنها
كانت كافرة في نفس الأمر ، فالأصل في تواجدها بين المسلمين أنها تتمتع بأمانهم ،
وللمسلم أن يدافع عن الكافر المستأمن لأنه لا يجوز ظلمه .
راجع الفتوى رقم : (52901) .
قال النووي رحمه الله تعالى :
" ويجوز لغير المصول عليه الدفع ، وله دفع مسلم صال على ذمي ، وأب صال على ابنه ،
وسيد صال على عبده ؛ لأنهم معصومون مظلومون " .
انتهى من " روضة الطالبين " (10 / 186) .
وقيّد بعض أهل العلم الوجوب
بحال عدم خوف المدافع على نفسه .
قال الرملي رحمه الله تعالى :
" والدفع عن غيره كهو [يعني كالدفع] عن نفسه ، جوازا ووجوبا ؛ حيث أمن على نفسه " .
انتهى من " نهاية المحتاج " (8 / 25) .
والذي يعجز عن الدفع عن الغير بنفسه : فعليه بذل وسعه في الاستعانة بالغير ، واستصراخ الناس ونحو هذا مما يستطيعه ، ويغلب على ظنه حصول المصلحة به .
والله أعلم .