علمت أن العامي لا يملك الترجيح بين الأدلة ، وليس عليه سوى سؤال من يثق بعلمه . ولكن معنى ذلك أنه لا يستفتي قلبه أبدا ، ولا يحكم عقله إذا قرأ أدلة كل طرف . فأنا تعودت ألا أسأل شيخا بعينه ؛ لأن هناك شيوخا موثوقا بهم يكون لهم آراء شاقة وغير مبنية على فقه الواقع ، فألجأ إلى البحث في أدلة الطرفين ، مثل من يقول بخروج جميع الجماعات الإسلامية من الطائفة الناجية . فأصبحت أعتمد على شيئين : 1. اتباع الدليل . 2. التخفيف من مقاصد الشريعة . فأحيانا أسأل سؤالا فيجاب علي بإجابة أجدها متساهلة ، فأسأل من هو أكثر تشددا فإن جاوب علي بدليل واضح من الكتاب والسنة فآخذ برأيه ، والعكس ، أحيانا أسأل سؤالا فيجاب علي بإجابة أجدها شاقة ومتعنتة ، فأسأل شيخا آخر ، فإن كان رأيه أيسر (ويؤكده الدليل) آخذ به . ومثال على ذلك الرأي القائل بعدم إعادة الصلاة التي ترك صاحبها شرطا من شروط الصلاة جهلا ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر بإعادة ما سبق عن جهل ، كما أن فيها مشقة لأنني كل فترة أكتشف خطأ كنت أفعله في الصلاة عن جهل ، فهل كل فترة سأقوم بتعويض الصلوات ، وهل سأقضي عمري كله في تعويض الصلاة ! وسؤالي هنا : هل ما أفعله صحيح ؛ وهو : اتباع العامي للدليل المقنع إذا شك فيما أفتي به ، والبعد عن الفتاوى التي فيها مشقة واضحة لأن التخفيف من مقاصد الشريعة ؟ وللتوضيح فأمثلتي على الآراء التي أعمل بها لوجود مشقة في الرأي المقابل لها ما يلي : عدم إعادة الصلاة لترك شرط من شروطها جهلا . عدم الحكم بالكفر على من استمع إلى الاستهزاء بالدين دون رضا . تغطية القدم بالجوارب دون إسدال العباءة في الصلاة وغيرها للقدرة على الحركة .
الحمد لله.
أولا :
الخطر الذي يجب على الجميع اجتنابه ، سواء كان عالما أو عاميا ، هو : الانتقاء لمجرد الهوى وموافقة الرغبة والشهوة ، وتقصد اختيار الفتاوى التي يتحلل بها المسلم من جميع القيود ، وتفتح له أبواب العفو عن كل التزام ، أو عن التزام ما يخالف هوى النفس ، أو يشق عليها فعله ، أدنى مشقة ؛ لأن نفسه الأمارة بالسوء تطلب ذلك وتهواه .
فمن كان هذا حاله فهو على خطر عظيم ؛ لأن مآل حاله إلى التحلل من الشرائع ، فالنفس لا يقف هواها عند حد ، فإن أصبحت هي المعيار الذي يحدد الاختيار بين الفتاوى فقد وجدت مشروعية ذلك الهوى الفاسد ، وحينئذ يصعب العلاج ، ويتعذر الدواء . قال تعالى : ( وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ) يوسف/53 ، وقال عز وجل : ( وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) ص/26، وقال سبحانه : ( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ) النازعات/40-41.
يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله :
" لا يجوز للمفتي أن يعمل بما يشاء من الأقوال والوجوه من غير نظر من الترجيح ولا يعتد به ، بل يكتفي في العمل بمجرد كون ذلك قولا قاله إمام ، أو وجها ذهب إليه جماعة ، فيعمل بما يشاء من الوجوه والأقوال ، حيث رأى القول وفق إرادته وغرضه عمل به ، فإرادته وغرضه هو المعيار ، وبها الترجيح ، وهذا حرام باتفاق الأمة .
وهذا مثل ما حكى القاضي أبو الوليد الباجي عن بعض أهل زمانه - ممن نصب نفسه للفتوى - أنه كان يقول : إن الذي لصديقي علي إذا وقعت له حكومة ، أو فتيا ، أن أفتيه بالرواية التي توافقه .
وقال : وأخبرني من أثق به ، أنه وقعت له واقعة ، فأفتاه جماعة من المفتين بما يضره ، وأنه كان غائبا ، فلما حضر سألهم بنفسه ، فقالوا : لم نعلم أنها لك . وأفتوه بالرواية الأخرى التي توافقه .
قال : وهذا مما لا خلاف بين المسلمين ، ممن يعتد بهم في الإجماع ، أنه لا يجوز ، وقد قال مالك رحمه الله : في اختلاف الصحابة رضي الله عنهم : مخطئ ومصيب ، فعليك بالاجتهاد.
وبالجملة ، فلا يجوز العمل والإفتاء في دين الله بالتشهي ، والتخير ، وموافقة الغرض ، فيطلب القول الذي يوافق غرضه ، وغرض من يحابيه ، فيعمل به ، ويفتي به ، ويحكم به ، ويحكم على عدوه ويفتيه بضده ، وهذا من أفسق الفسوق ، وأكبر الكبائر ، والله المستعان " .
انتهى من " إعلام الموقعين " (4/162) .
وهذا معنى ما نجده في كتب العلماء من تحريم " تتبع الرخص "، فالتتبع هنا مقصود ، يعني التلقُّط ، داعيتُه الهوى والرغبة النفسية ، وسببه البحث عن الترخص والتشهي والتحلل من الأحكام ، فهذا هو الممنوع والمحرم .
قال سليمان التيمي : " إن أخذت برخصة كل عالم ، اجتمع فيك الشر كله" .
وعلق عليه أبو عمر ابن عبد البر بقوله : "هذا إجماع ، لا أعلم فيه خلافا والحمد لله " .
انتهى من " جامع بيان العلم وفضله " (2/ 927) .
وسئل الإمام النووي رحمه الله :
" هل يجوز لمن تمذهب بمذهب أن يقلد مذهبًا آخرَ فيما يكون به النفع ، ويتتبع الرخص ؟
فأجاب بقوله :
" لا يجوز تتبع الرخص " انتهى من " فتاوى النووي "(ص: 235) .
ويقول الإمام الشاطبي رحمه الله :
" إذا صار المكلف في كل مسألة عنَّت له يتبع رخص المذاهب ، وكل قول وافق فيها هواه ؛ فقد خلع ربقة التقوى ، وتمادى في متابعة الهوى ، ونقض ما أبرمه الشارع ، وأخر ما قدمه " .
انتهى من " الموافقات " (3/ 123) .
ثانيا :
أما إذا نظر العامي في أدلة المجتهدين أو المفتين ، وراعى في نظره هذا محذور المشقة الخارجة عن المعتاد ، التي قد يؤدي إليها أحد الأقوال ، وتشكلت لديه قناعة معينة ، بسبب ما قرأ من تعليق العلماء وشرحهم ، وتوسعهم في الاستدلال لبعض أقوالهم ، فلا حرج عليه في تقليد ما اقتنع به ، ضمن هذه المعطيات .
كما لا بأس عليه في اتباع اختياره ، وإن وافق القول الأيسر ؛ لأنه لم يختر الأيسر بباعث الهوى والرغبة النفسية ، وإنما بباعث شرعي مقصود ، وهو اطمئنان القلب بالدليل المقنع ، وحسن الظن بالشريعة أنها لا تؤدي بالناس إلى العنت الخارج عن المعتاد، وليس تقصدا لتتبع الرخص أو الخروج عن التكاليف .
بل نحن ندعو العامي إلى سلوك هذا الطريق ، ولا نفضل أن يأخذ بقول من يفتيه مسلما ، بل نحثه على البحث والتأمل والتفكر ، ومحاولة الاطلاع على بعض أدوات البحث الشرعي ، ويستزيد من علومه الشرعية ، ولكن ضمن دائرة العلم والعلماء ، من غير اجتهاد مستقل ، وإحداث أقوال طارئة ، أو استطالة على العلماء وخروج عن أقوالهم .
يقول الإمام النووي رحمه الله :
" إذا اختلف عليه فتوى مفتيين ، ففيه خمسة أوجه للأصحاب ... الخامس : يتخير ، فيأخذ بقول أيهما شاء ، وهذا هو الأصح عند الشيخ أبي إسحاق الشيرازي ، وعند الخطيب البغدادي ، ونقله المحاملي في أول المجموع عن أكثر أصحابنا ، واختاره صاحب الشامل فيما إذا تساوى المفتيان في نفسه ... والظاهر أن الخامس أظهرها ؛ لأنه ليس من أهل الاجتهاد ، وإنما فرضه أن يقلد عالما أهلا لذلك ، وقد فعل ذلك بأخذه بقول من شاء منهما " انتهى من " المجموع " (1/56) .
فإذا أجاز العلماء للمستفتي تقليد من شاء بشرط أن يكون من الفقهاء المجتهدين ، وأن لا يتبع هواه وشهوته ، فمن باب أولى أن يقال بجواز تقليد من يطمئن العامي لتقليده لقوة أدلته واقتناعه بها .
وقد نقل الشافعية عن العلامة ابن دقيق العيد ، تجويزه لهذا النوع من الاختيار بين المفتين ، بشرط:
" انشراح صدره للتقليد المذكور ، وعدم اعتقاده لكونه متلاعبا بالدين ، متساهلا فيه ، ودليل اعتبار هذا الشرط قوله : ( والإثم ما حاك في نفسك )، فهذا تصريح بأن ما حاك في نفسك ففعله إثم " انتهى من " البحر المحيط " (8/377) .
وجاء في " المسودة في أصول الفقه " (ص: 518):
" إذا جوز للعامي أن يقلد من شاء ، فالذي يدل عليه كلام أصحابنا وغيرهم أنه لا يجوز له تتبع الرخص مطلقا ، فإن أحمد أثر مثل ذلك عن السلف ، وأخبر به ، فروى عبد الله بن أحمد عن أبيه قال : سمعت يحيى القطان يقول : لو أن رجلا عمل بكل رخصة بقول أهل المدينة في السماع ، يعنى في الغناء ، وبقول أهل الكوفة في النبيذ ، وبقول أهل مكة في المتعة ، لكان فاسقا " انتهى.
ثم يتأكد اتباع القول الأيسر : متى كان القول المقابل له يوقع المكلف في حرج ، أو مشقة خارجة عن المعتاد في شأن التكليف ، ولم يكن الدليل على ذلك القول بينا محكم الدلالة بالنسبة للمكلف المعين ، أو لم يبلغه دليل أصلا في المسألة ، أو تعارضت عليه وجوه الترجيح ، إن كان ينظر ويرجح ، أو تعارضت عليه أقوال المفتين ، وليس عنده ما يرجح بينها ؛ فلا حرج عليه في ذلك أن يبني ترجيح أحد القولين على التيسير ، ودفع المشقة ، ورفع الحرج ؛ فهذا أصل شرعي معتبر ، تكاثرت النصوص الشرعية في الدلالة عليه ، من حيث الجملة .
وينظر للفائدة جواب السؤال رقم : (223879) .
وللتوسع يمكنك النظر في الأرقام الآتية : (105721) ، (148057) ، (224164) .
وننبه هنا إلى أن المسائل الثلاثة التي ذكرتها في سؤالك قد سبق تقرير الجواب عليها في موقعنا:
ففي الفتوى رقم : (193034) بيان أن من تركت ستر قدميها في الصلاة لا يجب عليها قضاء ما سبق من الصلوات .
وفي الفتوى رقم : (153367) بيان أن الأكمل للمرأة ستر قدميها بثوبها الطويل ، ويجزئ عن ذلك لبسها الجوارب الساترة .
وفي الفتوى رقم : (149104)، بيان أن من استمع إلى الاستهزاء بالدين ، ورضي : فقد وقع في الردة .
وأما من استمع ، وأنكر بقلبه : فلم نجد من يقول بتكفيره ، وإن كان يلحقه الإثم إذا تمكن من المخالفة أو الإنكار ولم يفعل .
والله أعلم .