الحب والميل للجنس الآخر قبل الزواج ، وهو شيء ليس بيد البشر ، فالتعامل معه حدده ربنا _ سبحانه _ في تلك الآية الكريمة : ( وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَـكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) البقرة / 235 ، فالطريق واضح إما الخطبة أو نكتم الأمر داخلنا حتى يقضي الله فيه ، فهل الاستدلال بالآية الكريمة هنا صحيح أم لا ؟
الحمد لله.
أولا :
ميل الرجل للمرأة والعكس ، هو مما جبل الله عليه الناس ليتحقق استمرار جنس الإنسان في الأرض ولا ينقطع إلى أن يشاء الله تعالى ، وليتحقق السكون والألفة داخل الأسرة .
قال الله تعالى : ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ )الروم/21 .
ولا يلام الرجل على ميله لجنس النساء .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
" وأما محبّة النِّسْوان فلا لوم على المحِبّ فيها ، بل هي من كماله " .
انتهى من " الداء والدواء " ( ص552 ) .
ويدل على أن هذا الميل من صفات الكمال للرجل .
عَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( حُبِّبَ إِلَيَّ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ ) رواه النسائي ( 3940 ) ، وصححه الألباني في " صحيح سنن النسائي " ( 3940 ) .
وإذا تعلق قلب الرجل بامرأة أجنبية منه خارج إطار الزواج فقد يصعب عليه تخليص القلب من ذلك ، ولهذا جاء الشرع بالابتعاد عما يؤدي إلى هذا التعلق وقطع أسباب قبل وقوعه .
فالعشق والتعلق لا يولد في القلب غالبا إلا بسبب إطلاق البصر وعدم غضه عن المحرمات ، ومزاولة الشخص لما يقوي هذا العشق من غناء محرم ومطالعات أو مشاهدات أو تفكيرات تثيره ، وتمكنّه في القلب ، خاصة إذا كان قلبه ضعيفا ، خاليا من ذكر الله تعالى .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
" مبادئ العشق وأسبابه اختيارية داخلة تحت التكليف ، فإن النظر والتفكر والتعرض للمحبة أمر اختياري ، فإذا أتى بالأسباب ، كان ترتب المسبب عليها بغير اختياره ...
وهذا بمنزلة السكر من شرب الخمر ، فإن تناول المسكر اختياري ، وما يتولد عنه من السكر اضطراري ، فمتى كان السبب واقعا باختياره ، لم يكن معذورا فيما تولد عنه بغير اختياره ، فمتى كان السبب محظورا ، لم يكن السكران معذورا .
ولا ريب أن متابعة النظر ، واستدامة الفكر ، بمنزلة شرب المسكر ، فهو يلام على السبب "انتهى من " روضة المحبين " ( ص 225 ) .
نعم ؛ في بعض الأحيان يكون الشخص معذورا ، وغير ملوم على ما وقع في قلبه من الميل والعشق ؛ وذلك إذا حدث بلا تسبب محرم من العاشق كأن يتولد الميل بنظر الفجأة مثلا ، أو أن يكون العاشق قد تزوج امرأة ، وأحبها لكنها لم ترغب فيه وسعت في الطلاق منه حتى تطلقت ، فبقي قلبه متعلقاً بها ، فهذا معذور .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
" إذا حصل العشق بسبب غير محظور ؛ لم يُلَم عليه صاحبه ، كمن كان يعشق امرأته ، أو جاريته ، ثم فارقها ، وبقي عشقها غير مفارق له ، فهذا لا يلام على ذلك ...
وكذلك إذا نظر نظرة فجاءة ، ثم صرف بصره ، وقد تمكن العشق من قلبه بغير اختياره ، على أن عليه مدافعته ، وصرفه عن قلبه بضده ، فإذا جاء أمر يغلبه ؛ فهناك لا يلام بعد بذل الجهد في دفعه " انتهى من " روضة المحبين " ( 225 - 226 ) .
ثانيا :
متى ما وقع في قلب الرجل شيء من الميل لامرأة معينة ؛ فالحل الصحيح أن يتقدم لخطبتها إذا كان ذلك يمكن ، شرعا وواقعا .
ومن هذا الباب : شفاعة النبيّ صلى الله عليه وسلم لمغيث حتى تعود إليه بريرة بعد أن فارقته.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : " أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا يُقَالُ لَهُ مُغِيثٌ ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِي ، وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعبَّاسٍ : ( يَا عَبَّاسُ ، أَلاَ تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ ، وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا ) ،! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَوْ رَاجَعْتِهِ ) ، قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ : ( إِنَّمَا أَنَا أَشْفَعُ ، قَالَتْ : لاَ حَاجَةَ لِي فِيهِ ) " . صحيح البخاري ( 5283 ) .
وإذا عجز عن الزواج ، فعليه في هذه الحالة باللجوء إلى الله تعالى لكي يفرج همّه ، وعليه بالصبر ، وليتنبّه إلى أن هذا ابتلاء واختبار من الله تعالى ، فإن صبر فله أجر عظيم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" فأما إذا ابتُلى بالعشق وعف وصبر فإنه يثاب على تقواه لله ... من المعلوم بأدلة الشرع أنه إذا عف عن المحرمات ، نظرا وقولا وعملا ، وكتم ذلك ، فلم يتكلم به حتى لا يكون في ذلك كلام محرم ، إما شكوى إلى المخلوق ، وإما إظهار فاحشة ، وإما نوع طلب للمعشوق ، وصبر على طاعة الله ، وعن معصيته ، وعلى ما في قلبه من ألم العشق ، كما يصبر المصاب عن ألم المصيبة فإن هذا يكون ممن اتقى الله وصبر ، ( إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) " انتهى من " مجموع الفتاوى " ( 10 / 133 ) .
ثالثا :
وأما الاستدلال بالآية الكريمة المذكورة في السؤال على أن الحل للحب والميل للجنس الآخر قبل الزواج ، إما الخطبة أو كتم الأمر في النفس حتى يقضي الله فيه ؛ فهذه الآية الكريمة إنما نزلت في حق المعتدة من وفاة زوجها ، فيجوز لمن أراد أن يخطبها أن يعرض لها بالنكاح ولا يصرح ، كما يجوز له أن يضمر في نفسه أنه متى انقضت عدتها تقدم للزواج منها .
ولا يظهر لنا مانع من الاستدلال بالآية على ما ذكر ، فمن وقع في قلبه حب امرأة ، فليقدم على خطبتها ، فإن كان هناك مانع من خطبتها فلا حرج عليه أن يضمر في نفسه أنه متى زال هذا المانع تقدم لها .
بشرط أنه لا يتواعد معها على شيء محرم ولا يفعل معها شيئا محرما ، لقوله تعالى : (إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) .
فلا يجوز أن يقول لها قولا منكرا شرعا .
والذي يصارح لمن يحب بالحب والعشق ، لم يقل معروفا بل قال قولا منكرا ، فبهذا قد أطمع الطرف الآخر بالوصال ، فإذا لم يكن قادرا على الزواج بها ، فالأمر أشد في حقه ، ومن هنا يتلاعب الشيطان بهما ، فمتى كان باب الحلال موصدا ، لم يبق إلا الحرام !!
أمّا إذا كان قادرا على الزواج ، راغبا في الفتاة ، فليصرح بذلك ، وليخطبها من أوليائها .
والله أعلم .